جمال سلطان
دلالات وتوابع اغتيال السفير الروسي في تركيا
كان المشهد أقرب لأن يكون لقطة سينمائية بامتياز ، ولولا أن العالم كله كان يرى عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا ويعلم أنها حقيقية لشك كثيرون أنهم أمام فيلم من أفلام الأكشن ، خاصة وأن العديد من الكاميرات الموجودة في مكان المعرض الفني الذي حضره السفير كانت حاضرة وتصور الواقعة من أكثر من زاوية وبدقة عالية ، وقد بدا منفذ العملية في صورة حارس شخصي محترف ويتحرك بهدوء شديد ، وسمته وهيئته لا تكشفان عن شخصية إرهابية أو إجرامية ، وبدا وهو يقف خلف السفير الروسي كأنه الحارس الشخصي له بالفعل ، قبل أن يستل مسدسه ويوجه عدة طلقات سريعة وباحتراف شديد تنهي حياة السفير ، ثم يخطب في الحاضرين المذعورين وهم يهربون خطبة حماسية بأنه فعل ذلك من أجل حلب وضحاياها وأن الروس لن ينعموا بالأمن إذا لم ينعم به المسلمون في سوريا . في التقييم السياسي تأتي تلك العملية طعنة سياسية خطيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، وتمثل ضغطا سياسيا رهيبا عليه ، لأنها محرجة لنظامه وقدرته على حماية البعثات الديبلوماسية الأجنبية ، وتجعله في مواجهة غضب روسي كبير بعد أن قطع شوطا بعيدا في تحسين العلاقات ، غير أن الواقعة تمثل ضغطا سياسيا عنيفا أيضا على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، الذي يقدم نفسه لشعبه وللعالم في صورة الزعيم مهاب الجانب ، فإذا بسفيره المقرب إليه شخصيا يتم تصفيته بتلك الطريقة التليفزيونية ، فماذا عساك تفعل يا بوتين ، وانتشرت التحليلات ليلة أمس عقب الجريمة لكي تبحث في الرد العنيف الذي سيتخذه بوتين ، وأن العلاقات الروسية التركية انتهت وأنه تم تفخيخها ولن تعود أبدا ، غير أنه لم تمض سوى ساعات قليلة حتى صدرت البيانات الرسمية في كل من أنقره وموسكو لتكشف عن ردود فعل عقلانية للغاية وتتسم بالتماسك الانفعالي وتتحدث عن جريمة سياسية تستهدف العلاقات المميزة بين تركيا وروسيا ، وأنهم لن يسمحوا للإرهاب باستثمارها ، هكذا قالت الخارجية الروسية ثم قاله بوتين شخصيا وقاله أيضا أردوغان ، بدا أن هناك تفهما روسيا كبيرا بأن العملية مقصود بها إحراج أردوغان وتفجير العلاقة المتنامية بينه وبين بوتين . نجح الأتراك أمس في اختبار سياسي وديبلوماسي ودولي شديد القسوة ، وتلك العملية تكشف عن أن القيادة السياسة التركية وصلت إلى مستويات عالية بالفعل في الذكاء والخبرة والمرونة والقدرة على التعامل مع المفاجآت والصدمات واحتوائها بوعي وحكمة ، ولمعالجة الكبرياء الروسي سارعت تركيا في الإعلان عن استقبال وفد أمني روسي للمشاركة في التحقيقات الجارية بشأن العملية ، كما قررت إطلاق اسم السفير المغدور على الشارع الذي وقعت فيه الجريمة . العملية كشفت عن حجم المتاعب التي تواجهها تركيا ، فجهازها الأمني سارع باتهام الكيان الموازي ، جماعة فتح الله جولن ، بالتورط في العملية ، وهذا يضاف إلى الأعمال الإرهابية التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني ، إضافة للأعمال الإرهابية التي يقوم بها تنظيم داعش ، إضافة إلى الإرهاق الأمني والإداري والاقتصادي لاحتضان حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري ، إضافة إلى الحرب المستعرة على حدودها في سوريا والتي جمعت عشرات التنظيمات السنية والشيعية والكردية من كل أقطار الأرض تقريبا وتملك السلاح والتدريب ، وهو تحدي من الواضح أن تركيا ستعاني منه لفترات طويلة مقبلة . غير أن توابع العملية كشفت عن أن العلاقات بين أنقرة وموسكو وصلت إلى مستويات متقدمة للغاية من الثقة والاحترام وتقاطع المصالح ، وفي التصريحات المتعلقة بسوريا تحديدا ، وضح أن هناك تفاهمات روسية تركيا على حل سياسي من نوع ما في سوريا ، وأن روسيا قد اقتنعت بأن تركيا ، محدودة المصالح والأطماع في سوريا ، هي الصديق الأكثر إخلاصا للبحث عن مخرج سياسي لها من المستنقع السوري ، يحفظ لها ماء وجهها ويوقف النزيف المروع في سمعة روسيا وبوتين شخصيا على المستوى الدولي ، حيث أصبح مقرونا بالإجرام والوحشية وقتل المدنيين وتدمير المدارس والمستشفيات على صفحات الصحف وشاشات التليفزيونات العالمية ومنصات الأمم المتحدة ، وهو أمر يصعب أن يواصل تحمله بوتين لفترة أطول ، خاصة في ظل فقدان الثقة في قدرة نظام بشار على الاستمرار وحده أو حتى الاحتفاظ بالأراضي التي يتم استعادتها . من جانبها ، رأت تركيا أن الولايات المتحدة غير راغبة في حل المشكلة السورية ، ولها خطط لطعن تركيا في خاصرتها الكردية ، وأن أمريكا تتعمد منع المعارضة السورية من الحصول على سلاح نوعي وساهمت في إجبارهم على الانسحاب من حلب ، كما أن مؤتمرات جنيف 1، و2 ثبت أنها لا تساوي تذكرة السفر إلى هناك أصلا ، ولم توقف مذبحة ولم تقدم حلا ، وأمريكا سلمت الملف السوري عمليا لروسيا ، فقررت تركيا أن تتفاهم مباشرة مع اللاعب الدولي الأساس في سوريا ، بوتين ، وكان من الواضح أن التفاهمات بين الطرفين حققت تقدما كبيرا ، وأعلن بوتين عن نيته فرض وقف طويل لإطلاق النار في سوريا بعد ترك المعارضة لحلب تمهيدا لترتيبات سياسية ، وهذا ما أزعج الأيرانيين بشدة ، كما أزعج بشار ومجموعته بطبيعة الحال ، واستفز الأمريكيين أن يدير لهم أردوغان ـ ودولته عضو أساس في الناتو ـ ظهره لهم ويتجاهل وجودهم أساسا ، وينسق منفردا مع بوتين في ملف سوريا وربما المنطقة كلها . تلاقي الرؤية بين روسيا وتركيا في أن إنهاء الأزمة السورية سريعا يحقق للطرفين مصالح حيوية واستراتيجية ، يجعلنا أمام توقع ترتيبات قريبة في سوريا ، وخطط لحل شامل للقضية ، تطوي ملف بشار ولا تسمح لداعش أو أي قوى متطرفة في المعارضة بالوصول إلى السلطة ، كيف يتم ذلك ؟ ، هذا ما سوف تحمله الأسابيع المقبلة .