عماد رحيم
قبل أن يُحَرِّمُوا الحياة ويحلّلُوا القتل!
جاءت فاجعة الكنيسة البطرسية لتكشف لنا التغير الكبير الذى حدث للفكر الإرهابى، فبعد أن فجر محمود شفيق مصطفى صاحب الـ 22 ربيعا نفسه بحزام ناسف وسط المصلين، ليلقى 26 شخصا مصرعهم، بخلاف المصابين، تأكد الانتقال من التفجير عن بعد، إلى تفجير النفس وسط الحشود، بزعم الفوز بجنة الله!
زرعوا فى عقل «شفيق» زورا وبهتانا، أن فعلته الشنعاء هكذا جزاؤها، وأن الخلاص من حياته مقابل قتل هؤلاء المصلين داخل بيت عبادتهم، من أحب الأعمال إلى خالقه، ومن ثم فموته بهذه الطريقة سوف يضعه في منزلة الشهداء، بينما الحقيقة أن منزلته ستكون جهنم وبئس المصير.
أتذكر، الشهيد محمد أيمن شويقة، لدى مداهمة وكر إرهابى بقرية زارع الخير جنوب العريش بشمال سيناء، قبل عام تقريبا، وقد ضحى «شويقة» بحياته حينما قرر احتضان إرهابى يحمل حزاماً ناسفاً قبل أن يقترب من كتيبته بلحظات ويغتال من فيها، يقينه الثابت يؤكد له أن عقيدة الجندية المصرية الدفاع عن الوطن ومقدراته وأبنائه لوجه الله، وهو ابن الـ 21 ربيعاً، وهذا هو قمة التوهج والأمل والطموح فى المستقبل، ترك الحياة أعز وأغلى ما خلق الله، ليلقاه مؤمناً به وبشريعته، راسخاً فى عقله، ويحظى بمكانة الشهداء، وجنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
تخيلوا معى أن «شويقة» يجرى ليحتضن «شفيق» قبل أن يفجر نفسه، وكل منهما تداعب جنة الخلد خياله، الأول على حق والثانى على باطل. أعلم أنها مقارنة قاسية، لكنها مطلوبة لكشف فداحة التفكير الإرهابى، خاصة أننا أصبحنا مهددين بوجود كثيرين من أمثال «شفيق»، ولا تستطيع أعتى الأجهزة الأمنية فى العالم فضح العقول المتشحة بجهالة الدنيا والدين، كما تكشف الأسلحة المتطورة، فى أقصى درجات الاستعداد والاحتياط. الأزمة مستمرة منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين فى عشرينيات القرن الماضى، مروراً بتسلل الفكر السلفى المتشدد إلينا فى السبعينيات، الذى فرض مظهراً معيناً فى الملبس للرجل وللمرأة، باعتباره هو المظهر الإسلامى، وما دونه شركاً، فى محاولة لتغيير نمط حياة المصريين المتسمة بالبساطة فى الشكل والتعامل، فمصر فى بدايات القرن الماضى كانت تصدر للعالم الموضة الجديدة فى الأزياء، حتى القاهرة القديمة كانت شاهدة على الرقى والتحضر، حتى صنفت آنذاك من أفضل مدن العالم جمالاً وتحضراً ونظافةً، وكان مشهد وجود بيوت عبادة اليهود والمسيحيين والمسلمين متجاورين طبيعياً.
ورغم كل صور التشدد المقيت التى سيطرت على المشهد المصرى فى بعض الأوقات، تسكن ذاكرتى مشاهد أخرى تؤكد أصالة هويتنا القائمة على شراكة حقيقية بين مسلمي ومسيحيي الوطن، أولها، صورة السيدات المسلمات الثلاث وقد غطى الحزن وجوههن، وزرفت أعينهن الدموع من شدة الألم فى أثناء مرور الموكب الجنائزى لشهداء البطرسية، الثانى، الشيخ المسلم الذى طالبه أهالى إحدى الشهداء فى شبرا، بقراءة ما تيسر من سورة مريم، خلال تقديمه واجب العزاء، الثالث، مرور قسيس بملابسه المميزة لشراء حلوى المولد النبوى من أحد الأماكن العامة، ولا يفوتنى التركيز على مشهد آخر لا يقل أهمية، عندما دافع الشباب المسلم عن الكنائس بعد هوجة محاولات حرقها عقب عزل نظام الإخوان المسلمين عن الحكم، مشهد بديع يصور بصدق وبلا زيف، عمق العلاقة بين المسلمين و المسيحيين. اليوم هل آن أوان الاستيقاظ، قبل أن تفجعنا كوارث أخرى تفوق فاجعة البطرسية، فقد أمسى الحديث عن تطوير الخطاب الدينى بلا طعم ولا لون، حتى الهجوم على الإعلام الأعرج فقد بريقه، وصار مستهلكاً، أما الحديث عن رداءة التعليم، وضرورة تطويره لمواكبة الحياة التى حرمها علينا أتباع الشيطان، أصبح مضحكاً من كثرة تكراره.
لقد شغلتنا أزماتنا الاقتصادية المتوالية الطاحنة، عن الاهتمام بعقول أبنائنا، وتركز اهتمامنا على غذاء الجسد، على حساب غذاء العقل، وتركناه فريسة سهلة فى أيدى من زعموا أنهم حراس الدين، الذين توغلوا فى غفلة من الزمن، ووصلوا لأماكن متعددة فى بر مصر، واتخذنا من الأمن درعاً واقية لمحاربتهم، وتخلى المعنيون الحقيقيون بالمواجهة عن دورهم، حتى أصيب العديد من الشباب بالإحباط، من هول الصراع الفكرى الملوث، بنينا له مراكز للشباب، وعجزنا عن محاربة التعصب الرياضى، لدرجة جعلت تأمين حضور الجمهور لمباريات الكرة هماً ثقيلاً، حتى الدراما، اتجهت لترسيخ العنف وقدمت البلطجى والفتوة كنماذج يحتذى بها، وحصرت الملتحى فى صورة الإرهابى، وبات راسخاً لدى فئة منهم أنهم منبوذون، واستغل الأفاعى الفرصة، وغسلوا أدمغتهم، وأقنعوهم بأنهم الفئة الناجية والباقي على ضلال. وللتدليل على ما وصلنا إليه من تخلف، مطالبة أحد النواب بمحاكمة نجيب محفوظ، بسبب مؤلفاته «المخلة».
إنها حرب الأفكار الهدامة التى تحض على تفجير النفس شريطة أن يحصد هذا التفجير أرواح كثير من الأبرياء أيا كانت ديانتهم، مواجهتها، تحتاج من الجميع استعادة هويتنا، التى تركناها تخفت شيئا فشيئاً عبر عقود مضت، ولن يحدث ذلك إلا بزراعة الأمل فى النفوس، قبل أن يحرموا علينا الحياة ويحللوا القتل. وأخيراً إنقاذ شاب من الوقوع فى براثن هذا الفكر الأسود أفضل ألف مرة من مواجهته أمنياً، ثم إلقاء اللوم على أنفسنا، لندور فى الدائرة المغلقة ذاتها، كمن يحرث فى الماء.