كنا فى زيارة لبغداد إبان حكم الطاغية صدام حسين، وجرى الهمس حول عمليات الإعدام التى لا تتوقف، وتعليق أعضاء حتى فى حزب البعث على المشانق لاشتباه أو شك. وفى جلسة مع زملاء عراقيين راح أحدهم يتحدث عن “حدائق بابل المعلقة”.
قال صاحبنا القادم من مصر: يا إلهى وهل تعلقون الحدائق أيضا؟ ضحك المصريون، وسكت العراقيون حزنا لا تدرى أو خوفا من نتائج هذا القول الخطير!. وفى الأسبوع الماضى لم تكن حدائق بابل هى التى جرى تعليقها فى العراق سواء بالحضارة تاريخيا، أو بالوحشية فى عالمنا المعاصر؛ وإنما كان إعدام مدينة عربية عظيمة: حلب. لم يرحم المدينة أحد، تكالب عليها النظام السورى بكل قوته ووحشيته وغضبه، ومعه الروس والحرس الثورى الإيرانى وحزب الله اللبناني، وراحوا جميعا يدمرونها مبنى بعد مبني، وحديقة بعد حديقة، وأثرا بعد أثر، وحيا بعد حى. مشاهد الفزع بعد ذلك صارت مشهدا بعد مشهدا، ويوما بعد يوم يجرى الناس وقد أصبحوا فجأة، ووجها لوجه، أمام يوم القيامة.
لم يرحم حلب من زعموا تحريرها، تمترس فيها بقايا “الربيع السورى” الذى لم تظهر لا ثمرة ولا زهرة، فمنذ بدأ فى درعا فى عام ٢٠١١، فإن الشباب كما فعلوا فى بلاد عربية أخرى لم ينتهوا إلى شيء سوى الاستسلام لجماعات راديكالية وفاشية شتى، كان فيها بالطبع من الإخوان، ومن القاعدة، ومن داعش، ودائما الخليط من كل ذلك؛ ولكنهم جميعا تكاتفوا على الحرب فى حلب، وأن تكون المكان الذى تجرى فيه الوقفة الأخيرة فلا يتركونها إلا وهى ركام ورماد. لم يكن لحلب أم سورية ترفض حكم الملك سليمان بقسمة الطفل إلى نصفين فتتنازل عنه لغريمتها فيظهر الحق الذى لا حق بعده فيمن هو الحريص على المدينة وأهلها وتاريخها وحضارتها.
لست أدرى عما إذا كان أهل الحكم، أو أهل المعارضة، فى سوريا يعرفون أن حلب هى أقدم مدينة فى التاريخ عرفت التواصل الحضارى منذ جاءتها بذرة الحضارة فى الألفية السادسة قبل الميلاد؛ أيا أنها حينما جاءتها هجمات البرابرة من كل نوع كان عمرها ثمانية آلاف عام، كانت فيه درة التجارة والعمارة والفنون سواء على طريق الحرير الصيني، أو حتى فى قلب الإمبراطورية العثمانية حينما كانت المدينة الزاهرة الثالثة بعد القسطنطينية والقاهرة. صحيح عرفت المدينة القسوة من قبل حينما انتزع عمقها الشمالى وجرى ضمه إلى تركيا، ومن بعده جرى انتزاع نافذتها على البحر الأبيض فى أنطاكية والإسكندرونة؛ ولكن الإعدام هذه المرة كان شاملا لقلبها وعمائرها وأهلها، وبكافة الوسائل لم يستثن منها نوعا من المتفجرات أو الأسلحة الكيماوية. فى هيروشيما وناجازاكى جرى الأعدام مرة واحدة، وبضربة مروعة واحدة، وفى حلب جرى الأعدام قطعة بعد قطعة حتى يشهد الحلبيون مدينتهم وهى معلقة كالذبيحة التى تذوى مع كل ضربة جوية أو قصف مدفعي.
لم تخرج مظاهرة واحدة فى العالم العربى تؤيد أهل حلب بينما كانت منظمات الإغاثة الفاعلة قادمة من الغرب. فى باريس خرج الناس يشعلون المشاعل ويكتبون اسم حلبAleppo بالأضواء الفاقعة، لعل أحدا يرى أو آخر يتنبه لموت حضارة. لم يرق قلب أحد فى عاصمة عربية، بل وجد عرب فى حلب دائرة لخلاف إضافى تفوق للأسف على المسئولية التاريخية لإنقاذ مدينة عربية. وحتى فى مصر حيث كانت حلب جزءا من الإقليم الشمالى للجمهورية العربية المتحدة وعاصمتها القاهرة، فلم يكن لحلب مكان أكثر من هامش الأحداث؛ وفى الأسبوع الماضى كانت العاصمة الكبرى مشغولة بهم إرهاب صب وحشيته على الكنيسة البطرسية. وبشكل ما بدا أن العاصفة التى ألمت بالعالم العربى كله مع مطلع العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين لا تزال على عنفوانها تقتل مدينة تارة، وتعصف ببلد تارة أخري، وتبث خوفا عميقا لدى من لم يأته “الربيع الطلق يختال ضاحكا” لأن ضحكة الربيع كانت عامرة بالفوضى والعنف والقتل والذبح، كل فى موعده، وكل حسب نصيبه.
أعلم كما يعلم كثيرون أن مصر لديها الكثير مما يشغلها، والجسد المصرى حتى لم يصل إلى مرحلة النقاهة بعد؛ أصبحنا أكثر انتباها، كما نعرف العلاج، ومسيرة الطريق. ولكننا رغم حالتنا لا يجوز لنا لا سياسيا ولا أخلاقيا الصمت على ما جرى فى سوريا عامة، وحلب خاصة ليس فقط لأنها رمز المأساة، وإنما لأنها حلب وكفي. هنا فإننى لا أدعو إلى إعلان موقف تكون كلماته حارة وزاعقة وحماسية، وإنما الدعوة هى لسياسة إقليمية تتعامل مع أزمات الإقليم بالجملة كما نتعامل معها بالقطاعى وفقا لمصالح كل دولة. ما جرى فى حلب ليس بعيدا كثيرا عما جرى فى الكنيسة البطرسية، الفارق هائل بالمسافة وعدد الضحايا بالطبع، ولكن المسرح واحد، والمأساة واحدة ومتصلة.
الرئيس السيسى على أكتافه أثقال هائلة، ولكن النصر فى مصر على الإرهاب والتخلف لن يكون ممكنا بشكل كامل إلا عندما يكون الانتصار إقليميا؛ فما بدأ فى تونس منذ سنوات ست هز أركان الإقليم، ولم يحدث أن عرفت الزلازل حدودا جغرافية. مهامنا هى الانتصار على الإرهاب سواء كان على جانب أهل الحكم أوأهل المعارضة، وبقدر ما أصبح على الثوار أو المعارضة أن يعرفوا الحدود التى يصلون إليها؛ فإنه على أهل الحكم أن يعرفوا متى يرحلون. وفى كل الأحوال فإن بشار الأسد ربما بات عليه أن ينظر إلى حلب، وسوريا من كوبانى إلى درعا ويسأل نفسه أى بلد سوف يحكم الآن؟