فى مقال الأسبوع قبل الماضى بعنوان السيسى و«مسافة السكة»، حاولنا شرح أبعاد هذا المفهوم وفقاً للإدراك المصرى، وكيف تلقته الرياض واعتبرته مبرراً لكى تطالب القاهرة بإرسال قوات برية للمشاركة فى حرب اليمن، وهو ما رأته مصر غير مبرر ولا يدخل فى سياق المفهوم، وذلك استناداً إلى إدراك مصر لأمن الخليج كجزء من أمنها الذاتى وتعبير عن استعدادها للمشاركة فى الدفاع عن دول الخليج إذا ما تعرضت لتهديدات جدية تتعلق بوجودها وبقائها واستقرارها.
وقد تصور بعض الأصدقاء والقراء أن تعبير «مسافة السكة» بمعنى الاستعداد للتدخل من أجل أمن الخليج يفرض على مصر الاستجابة للمطلب السعودى، خاصة أن الرياض ترى فى الانقلاب الحوثى تهديداً إيرانياً لأمنها الذاتى، وأن مصر عليها أن ترد الجميل للسعودية التى بادرت به فى صورة تقديم مساندة سياسية ودعم اقتصادى كبير. وبداية فإن تحريك الجيوش بين الدول وبعضها ليس بالأمر الذى يأتى جزافاً، فهو أمر جلل وكبير. وفى دراسة سابقة إحصائية وكيفية حول أشكال التعاون بين مصر والدول العربية فى عقد السبعينات من القرن الماضى، ومن خلال تطبيق استمارة تحكيم بين عدد كبير من المتخصصين فى مجالات الدفاع والأمن والاقتصاد والثقافة والسياسة والفن والرياضة والتعليم والسياحة، اجتمع المحكمون على أن مشاركة بلدين أو أكثر فى حرب واحدة ضد عدو مشترك هو أعلى درجات التعاون والتكامل المصيرى بين البلدان المشاركة فى الحرب. وتعد حرب أكتوبر 73 التى خاضتها مصر وسوريا والأردن ومن ورائهم مساندة سياسية واقتصادية وأمنية وتسليحية هائلة من الكويت والسعودية وليبيا والجزائر والسودان واليمن، تعد نموذجاً واضحاً ومعبراً عن وحدة الإدراك والإيمان بالتكامل المصيرى بين كل هذه الأطراف، وبينما كانت مشاركة مصر وسوريا فى الحرب قد سبقتها تحضيرات مختلفة المستويات، ميدانية وعسكرية وتخطيطية، جاءت أشكال المساندة العربية بقرارات مشتركة بين البلد المعنى وكل من مصر وسوريا معاً، فقيام جيوش أكثر من بلد بشن حرب أو رد عدوان ليس بالأمر الهين، ولا يتم بمجرد طلب يتصور صاحبه أن له الحق فى الحصول على دعم عسكرى كبير مقابل مساعدات اقتصادية تمت فى ظروف معينة وكانت تحقق له مصالح كبرى لا تقل عن مصالح الطرف الثانى.
والأمر الثانى الذى يجب أن يؤخذ فى الاعتبار هو أن تحرك الجيوش وخوضها حرباً مشتركة يستند فى الأساس إلى مدركات التهديد لبلدان هذه الجيوش معاً، فإذا كان هناك توافق كامل فى تفاصيله وفى جملته وفى آثاره المتوقعة، يصبح أمر التعاون العسكرى بين بلدين أو أكثر يسيراً وممهداً، وإذا كان الأمر عكس ذلك فلن تكون هناك أرضية صلبة لخوض تجربة الحرب المشتركة. وفى عجالة فإن إدراك مصر للتهديد الحوثى وهو كبير، لكنه لا يرقى إلى درجة التهديد الوجودى للمملكة، وأن هناك آليات سياسية وسلمية يمكن أن تحتوى أى تهديد محتمل أقل من الوجودى، كذلك تدرك مصر أن كثيراً من سياسات ومواقف إيران تجاه أزمات وبلدان عربية هى عدائية وخطيرة، ولكنها ليست من النوع الذى تتم مواجهته بالحرب وبالجيوش. وفى هذا اختلاف كبير مع الرؤية السعودية، وفى كل المؤسسات والأحلاف القائمة فى عصرنا الحالى يعد قيامها واستمرارها مرهوناً بإيمان أعضائها بأن هناك ما يجمع بين مصائرهم، وأن ما يهدد طرفاً واحداً منهم يهدد باقى الأطراف، شرط ألا يكون تحرك أى طرف تحركاً عدائيً إزاء الغير بدون مبرر أو يحقق له مغامرة أو مصلحة ذاتية لا تراها عيون باقى أعضاء الحلف بالمستوى ذاته، ولكى لا نبتعد نذكر بأمر تركيا وهى عضو فاعل فى حلف الناتو منذ نشأته، وفى سنوات الحرب الباردة بين الكتلة السوفيتية بقيادة موسكو الشيوعية، والكتلة الغربية بقيادة واشنطن الليبرالية، كانت تركيا تحت مظلة حلف الناتو وضماناته العسكرية بدون أى تردد، وهو أمر يختلف جملة وتفصيلاً عن حال المغامرات العسكرية التى تقوم بها تركيا أردوغان الآن فى كل من سوريا والعراق، ولذلك لا يراها الناتو تستدعى حشد قواته وجيوشه ويلهث وراء أنقرة، وفى كثير من مناقشات الحلف كانت هناك انتقادات من بعض الأعضاء لما وصف باندفاع تركيا فى استخدام القوة المسلحة وفى العبور إلى أراضى دولتين جارتين لها وهما العراق وسوريا، وهذا المثل يؤكد أن عضوية الأحلاف، التى هى أعلى تطبيقات الأمن الجماعى لا تعنى تحريك جيوش أعضاء لمناصرة طرف عضو يريد أن يحقق مصالحه الذاتية ومغامراته العشوائية دون أن يتشاور مع الباقين أو يتفق معهم على حدود هذه المغامرة العسكرية.
وفى كل الأحوال فإن اعتبارات ودواعى الأمن الجماعى لا تُفعل من تلقاء نفسها أو حسب الظروف أو لرغبات ذاتية لطرف لا يوافق عليها باقى الأطراف، ولكنها تُفعل من خلال الاتفاقات المحددة والصارمة، والالتزامات المتبادلة، وتحديد التهديدات المحتملة، ومسرح العمليات المحتمل، وأحجام الجيوش الممكن تحريكها للمشاركة فى حرب أو فى صد عدوان مؤكد، وتحديد قواعد الاشتباك، وأشكال المشاركة، وكيفية وضع البنية التحتية المدنية للدول المشاركة تحت قيادة عسكرية يتم الاتفاق على شكلها وعلى طبيعة عملها.
ومما يجب ملاحظته هنا أن الرئيس السيسى حين طرح مفهوم مسافة السكة والاستعداد للدفاع عن أمن دول الخليج تجاه التهديدات الوجودية لها، ربط ذلك بمشروع إقامة قوة عربية عسكرية مشتركة لمن يرغب من الدول العربية، تكون بمثابة الإطار المنظم للأمن الجماعى العربى، ومن خلاله يتم تحديد التهديدات سواء من دول ذات سياسات عدائية أو من قبل تنظيمات إرهابية عابرة للحدود، أو ربما تهديدات أقل حدة ولكنها تمس سلباً أكثر من طرف، ومعروف أن مشروع القوة العربية الموحدة قد تم اغتياله لغرض فى نفس يعقوب، وفى تصورى أن هذه القوة إن خلصت النوايا وبدأت فى تحديد آليات عملها من خلال تطبيقات الأمن الجماعى المعروفة، لكانت أجدى كثيراً، ففيها الاعتماد على الذات، وفيها الثقة بالنفس، وفيها تأكيد قدرات الردع، وفيها إثبات فاعلية العرب فى أهم شىء يخصهم وهو أمنهم، ولكن للأسف هناك من يرى أن الاعتماد على شراكات استراتيجية يتم فيها دفع الأموال المهولة لطرف أجنبى يتحدث حلو الكلام ويبعد آلاف الأميال لشراء نظم أسلحة حديثة للغاية لكى توضع فى المخازن ولا يتوافر لتشغيلها العنصر البشرى المحلى، هو الأجدى، وفى ذلك مفارقة للعروبة والتكامل والقيادة.