محمد السيد عيد
الشك المطلق - الوصل والفصل
الشك شيء طبيعي في السلوك البشري، لكن الشك عادة يكون من أجل الوصول للحقيقة. ودون هذا الشك يكون الناس كالأنعام لا عقول لهم. هذا الشك الذي نمارسه في حياتنا اليومية لا غبار عليه، لكن المشكلة في الشك المطلق؛ أي الشك للشك؛ الشك الذي لا يهدف للوصول للحقيقة. إنه شك مرضي، يؤذي صاحبه قبل أي أحد آخر، لكنه في النهاية يمكن أن يكون عنصراً هداماً للمجتمع والدولة. وللأسف فإن هذا النوع من الشك صار مسيطراً علي عقول الكثيرين. ولنضرب مثالين فقط علي هذا :
المثال الأول : حادث الكنيسة البطرسية
بعد حادث الكنيسة البطرسية أعلن الرئيس اسم المتهم الذي توصلت إليه أجهزة الأمن بعد عمل علمي مشرف قامت به مصلحة الأدلة الجنائية. علي الفور بدأت حملة التشكيك. قال بعض الناس إنهم لا يصدقون ما قاله الرئيس، وإنه يتضارب مع تصريحات وزارة الداخلية السابقة التي ذكرت أن المسئول عن التفجير سيدة وضعت قنبلة في الجزء الخاص بالنساء وخرجت، وبعد خروجها انفجرت القنبلة لتحصد الأرواح. ولم يضعوا في حسبانهم أن البحث الجنائي يمكن أن تقوده الوقائع لشيء جديد أثناء الإجراءات. وسخر أحد القانونيين الكبار من الأمر، قائلاً : » ماذا ستفعل النيابة بعد أن اتهم الرئيس شخصاً معيناً » متجاهلاً طبيعة الموقف السياسي.
ذهبت الكاميرات للمعمل الجنائي، وبينت للناس كيف توصل الخبراء لمعرفة الجاني، وأكدت أن تحاليل dna التي أجريت للإرهابي القاتل وأخيه أثبتت أن المتهم هو الشخص الحقيقي الذي وجه إليه الاتهام. ثم أصدر تنظيم داعش بياناً يعلن فيه مسئوليته عن الحادث ويؤكد أن الذي قام به أحد الانتحاريين، ورغم هذا استضاف أحد الإعلاميين أسرة الإرهابي لتقول إن ابنها ليس هو الشخص الذي أعلن عن اسمه الرئيس، وإن ابنها موجود في السودان. وكتب أحد الأشخاص علي الفيس بوك : » أنا لا أصدق الداخلية، ولا الرئيس، ولا داعش ». إذا لم يكن هذا هو الشك المطلق فماذا يكون ؟
مثال آخر : موضوع الدواجن
بمجرد أن أعلنت الحكومة قرارها برفع الجمارك عن الدواجن لمدة محددة انطلقت الأصوات تتهم الحكومة بأنها متواطئة مع رجل الأعمال أحمد الوكيل، رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية، وأنها باعت له الدولار بالسعر الرسمي قبل تعويم الجنيه ليستورد به الدواجن، ويحقق مكسباً يقدر بالمليارات. وتحت الضغوط الإعلامية أعلنت الحكومة أنها ستعيد النظر في القرار. حينئذ انطلقت الاتهامات من جديد تقول إن الحكومة قررت التراجع بعد أن أدخل الوكيل البضاعة بالفعل. وقدم المشككون ما يشبه التقارير بالأرقام عن قيمة الفروق في سعر العملة، وتواريخ زعموا أن شحنات الدواجن دخلت فيها البلاد، وذكروا كميات محددة دخلت في هذه التواريخ، للإيحاء بأنهم عليمون ببواطن الأمور، وأنهم يكشفون تحايل الحكومة. المهم أن الحكومة تراجعت عن قرارها، وظهر أحمد الوكيل في وسائل الإعلام مؤكداً أنه لا يستورد الدواجن منذ سنوات، وقال إن الاتحاد العام للغرف التجارية اقترح رفع الجمارك عن الدواجن المستوردة لفترة محددة منعاً لارتفاع سعرها بعد تعويم الجنيه، ورغم هذا انطلقت الاتهامات بأن الحكومة تتخبط، وتصدر قرارات غير مدروسة. معني ما سبق باختصار أن الحكومة متهمة في كل الأحوال. والسؤال : من الذي يقف وراء هذا ؟
أعتقد أن هناك جهة متخصصة، صاحبة مصلحة، تقوم بإطلاق موجات التشكيك، وأن اللجان الإلكترونية للإخوان وغيرهم تلعب دوراً في نشرها، وبعض القنوات التليفزيونية تروج لها، وبعض المعارضين يعتبرون أن شكهم وتشكيكهم في كل شيء من علامات تميزهم، لكن هذا كله طبعاً لا يعفي الحكومة من أنها تشارك في صنع هذه الحالة. إن البعض يريد بنا أن نصل لحالة تشبه ما كان موجوداً قبل يناير 2011. لذلك أري ضرورة تكليف مجموعة من علماء الاجتماع والنفس والعلاقات العامة بدراسة الموضوع، لكي نتعامل مع ظاهرة التشكيك بصورة علمية بدلاً من أن نتركها تتفاقم. تري هل يمكن أن يحدث هذا ؟