البديل
محمد حماد
دولة المخبرين و”الوضع” الصعب في المنطقة “الحساسة”!
طالعت مؤخراً عرضاً موجزاً لعدد من مجلة AUC Times التي يصدرها عدد من الطلاب المستقلين داخل الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العرض قدمته الزميلة مي شمس الدين على موقع “مدى مصر” تحت عنوان: “مُخبرين في الجامعة الأمريكية”، وهو العنوان نفسه الذي تصدر غلاف المجلة.
الجامعة الأمريكية في القاهرة التي سمح لها على الدوام بهامش من احترام الحريات الأكاديمية وحرية التعبير كمؤسسة تعليمية تتبع النموذج الليبرالي بشكل أكبر عن مثيلاتها من الجامعات المصرية لم تكن تعاني من مساوئ التدخلات الأمنية سواء في الأنشطة الطلابية أو في مجال الحريات الأكاديمية والطلابية إلى وقت ليس بعيداً.
الأمر اختلف الآن، ما دفع بالمشرفين على مجلة AUC Times إلى إصدار هذا العدد الخاص الذي حمل هذا العنوان الصادم: “مخبرين الجامعة الأمريكية”، وضم 177 شهادة كان بعضها من أعضاء بهيئة التدريس، والبعض الآخر لقيادات سابقة في اتحاد الطلاب، وتمحورت الشهادات حول التدخل الأمني في الأنشطة الطلابية داخل الجامعة، سواء تدخل مباشر من خلال مؤسسات الجامعة المختلفة، أو وجود مخبرين من خارج الجامعة داخل أسوارها.
إحدى الشهادات الصادمة جاءت من عضو بهيئة التدريس، وفيها أنه شاهد شخصًا يرتدي ملابسًا مدنية داخل مبنى المكتبة وهو يتنصت على أحاديثه مع طلابه في مكان مفتوح داخل الحرم الجامعي، وحينما توجه لمعرفة هويته وتشاجر معه، اكتشف أنه يحمل رتبة مقدم. يؤكد عضو هيئة التدريس أنه رأى الشخص نفسه في أنشطة مختلفة، كما ظهر مع بعض أفراد إدارة الجامعة.
العدد كله بموضوعه وتوقيته يحرض على قراءته لأنه يرسم بعض ملامح الصورة التي صارت عليها تدخلات الأمن، والمدى الذي وصلت إليه هذه التدخلات في جامعاتنا بما فيها تلك التي كانت تحسب خارج دائرة هذه التدخلات الأمنية الخشنة.
ليس هذا هو موضوعي في هذا المقال، ولكن ما يعنيني هنا هو جملة لفتت نظري بشدة وردت على لسان واحد من القيادات الطلابية بالجامعة الذي فكر في إحياء فكرة «اتحاد طلاب مصر»، إلا أن مكتب تنمية الطلاب بالجامعة رفض الفكرة، وطلب تغييرها لتكون «منتدى اتحاد الطلبة»، قبل أن يتلقى اتصالًا هاتفيًا من أمن الدولة مباشرة مطالبين إياه بالتخلي عن الفكرة نهائيًا، «بحجة أن مصر تمر بفترة صعبة وموقفها حساس».
هذه الجملة الأخيرة هي التي توقت عندها وسرحت بعيداً عن محتويات العدد التي تشي بوضوح بتدخلات أمنية واسعة النطاق في رحاب الحرم الجامعي، “مصر تمر بفترة صعبة، وموقفها حساس”، كان ذلك في العام 2010.
وسألت نفسي سؤالاً يبدو ساذجاً: في أي زمن لم تعش مصر هذا “الوضع الصعب”، ولم تعاني من هذا “الموقف الحساس”؟
خاض الشعب المصري عبر تاريخه الحديث معارك طويلة ومضنية سقط له فيها ضحايا وارتفعت إلى عنان السماء أرواح شهداء وهم يطالبون بأبسط حقوق الإنسان لأنفسهم ولذويهم ولعموم الشعب المصري، وكانت الأنظمة ترفض وتتحجج بالوضع الصعب والموقف الحساس.
كان القانون الأساسي الذي حكم أصحاب نظرية الوضع الصعب والمنطقة الحساسة هو الإصرار على عدم اشراك الشعب في تقرير مصيره وتحديد أجندة المستقبل بما يحقق مصالحه، وظل الشعب مبعداً عمداً عن المشاركة في صناعة القرار الوطني والاقتصادي والسياسي على أرض بلده طوال قرنين من الزمان، إلا في فترات قليلة كان الشعب يفرض خلالها كلمته على حكامه. وهي فترات من قلتها تبدو كالاستثناء الذي يثبت القاعدة الأهم التي يمضي عليها كل حكام مصر.
واحدة من أهم ثورات الشعب تلك التي جرت وقائعها في العام 1919 والتي خرج فيها الشعب في الريف والحضر يطالب بالاستقلال والدستور، انتهت بإقرار دستور 1923 الذي أقام حياة نيابية حقيقية أفضت إلى حكم الأغلبية وسرعان ما انقلب عليها الملك فؤاد وألغى الدستور وعزل حكومة الشعب وتولى الوزارة صاحب القبضة الحديدية الذي ألغى الدستور وأصدر دستوراً مفصلاً على المقاس الذي يريده الحاكم في سنة 1930.
وهو السيناريو نفسه الذي تكرر بتفاصيل مختلفة بعد ثورة يناير 2011 التي تطلعت إلى حكومة يرضى عنها الشعب وتحقق له مطالبه في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والتي انتهت إلى إصدار دستور يلبي الحد الأدنى من مطالبها ثم سرعان ما وضع الدستور على الرف واعتبره الحاكم دستور النوايا الحسنة لا يصلح لبناء الدول.
وكأن الدول لابد لها أن تبنى على نوايا سيئة، وهي نفس النوايا التي حكمت كل الحكام من قبل، نية إبعاد الشعب عن المشاركة في صناعة حاضره وصياغة مستقبله على أرض بلده.
عانينا في السبعينيات كجيل ثار أول ما ثار على تمييع الموقف على الجبهة مع العدو ورفض حديث السادات عن عام الضباب وكل المماحكات السلطوية التي كانت تبرر عدم الدخول في حرب استرجاع الأرض والكرامة، ثم ثار بعد ذلك في وجه توجهات السياسة الخارجية الساداتية التي منحت أمريكا 100% مما أسماه السادات بأوراق اللعبة في المنطقة والعالم، ثم خرجنا ضد كل قراراته الاقتصادية التي كانت بداية لتكوين الأساس لرأسمالية متوحشة يزداد فيها الأغنياء الجدد غنى ويزيد فيها معاناة الفقراء يوما بعد يوم، وفي مواجهة هذا الجيل كانت حجة السادات الدائمة هي أن مصر تمر بوضع صعب وتعاني من الموقف الحساس الذي وجدت نفسها فيه.
وتسبب هذا الوضع الصعب ومعه الموقف الحساس في رمي الكثيرين في السجون، واعتبر السادات كل معارضيه إما من الذين يرتدون قميص عبد الناصر وأتباع مراكز القوى التي كان قد أطاح بهم وأدخلهم السجون، أو من الشيوعيين العملاء للاتحاد السوفيتي الكافر، وقد مات وفي السجن مجموعة من أشرف مفكري وسياسيي مصر بتهمة العمالة للاتحاد السوفيتي تحت اسم “التفاحة 19”.
حجة الموقف الصعب والوضع الحساس استخدمها حسني مبارك أيضا من أول يوم جاء فيه إلى الحكم في أكتوبر سنة 1981 وحتى يوم تنحيه في فبراير 2011، مرة بحجة الإرهاب ومرات بحجة الإخوان، ومرات أخرى بحجة عدم وجود بديل يحكمه في كل ذلك منطق “أنا أو الفوضى”.
الذين جاءوا بعد يناير 2011 مضوا على نفس السُنة، وزادوا وعادوا في حديث المؤامرة، وتوسعوا في اتهام كل من يخالفونهم بالعمالة للخارج والتآمر على مصر، والتسبب في تقسيمها، والمشاركة في حروب الجيل الرابع ضدها.
كل تاريخنا، على الأقل الحديث، كنا في هذا الوضع الصعب وعلى حافة هذا الموقف الحساس، أو هكذا قال لنا حكامنا سواء كانوا ملوكاً أو رؤساء جمهورية، تعددت الأسباب والمبررات التي كانت الأنظمة تسوقها لتسويق هذه المقولة التي لم يكن لها إلا هدف واحد هو كتم كل صوت معارض، وتكميم كل الأفواه المشاكسة، والتضييق على الحريات العامة، وتأميم المجال العام، وخنق المجال السياسي، وترك الساحة فارغة إلا من صوت واحد هو صوت المطبلين الذين تحركهم دولة المخبرين، لينضبطوا على لحن “الوضع الصعب والموقف الحساس” ويرقصون على نغماته!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف