د. محمد مختار جمعة
الرشوة وأثرها في هدم الدول
إذا كانت الفتوي تتغير بتغير الزمان والمكان والحال فإن ذلك ينطبق انطباقا شديد الوضوح علي بعض الفتاوي التي كانت تتعلق بشأن الرشوة . ففي زمن شاع فيه الفساد وطم . ولم تكن الحكومات تواجه الراشين والمرتشين بحسم أفتي بعض الناس بأن الإثم علي المرتشي . أما الراشي فإن كان مضطراً فإنه يكون معذوراً باضطراره . وهذه الفتاوي التي بنيت علي مراعاة ضعف الإيمان عند الناس فتحت أبواباً واسعة لمزيد من الرشي والفساد . كما فتحت الطريف واسعاً أمام أصحاب النفوس الضعيفة ليتعلقوا بالضرورة وأنهم مضطرون . حتي صار الكثير من الأبواب لا يفتح إلا بالرشوة أو المحسوبية . أما وأننا أمام دولة عظيمة ونظام حكيم يواجه بقوة وشراسة وبلا أدني هوادة كل ألوان الفساد والرشي والمحسوبية واستغلال النفوذ فإن الواجب شرعاً علي جميع المواطنين مساعدة أجهزة الدولة في القضاء علي الأدواء القاتلة . والعمل علي منع الفساد قبل وقوعه بالنصح . وعدم المشاركة فيه أو الرضا به أو السكوت عنه بأي شكل من الأشكال.
كما أنني أدعو إلي تعديل قانوني يجرم المشاركة بأي شكل في عملية الرشوة وكل المشاركين فيها راشياً ومرتشياً ووسيطاً. ولا سيما بعد اكتشاف الجريمة بمعرفة أجهزة الدولة اليقظة الواعية . أما الشهامة الحقيقية والوطنية الصادقة فهي التي تتحقق في الإبلاغ عن الجريمة قبل القبض علي المتهمين . أما بعد القبض عليهم فكل أطرافها شركاء في الجرم والإثم . ولهذا قال نبينا "صلي الله عليه وسلم": "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش" . وهو من يسعي بينهما بالرشوة . بل هو الأشد فتنة وخطراً . وقال "صلي الله عليه وسلم" : "الراشي والمرتشي في النار" . وقال "صلي الله عليه وسلم": "لعنة الله علي الراشي والمرتشي" . وهو وعيد شديد لآكل الرشوة ودافعها والساعي بينهما بأن جعلهم جميعاً مطرودين من رحمة الله . متعرضين لسخطه وغضبه . ولم يتوقف الامر عند مجرد النهي عنها وذمها . بل تعدي ذلك ليصل إلي حد اللعن الصريح الذي يعني الطرد من رحمة الله تعالي.
والرشوة أكل للسحت ولأموال الناس. والحق سبحانه وتعالي يقول: "وتري كثيراًَ منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ہ لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" "المائدة: 62- 63". ويقول تعالي: "... ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" "آل عمران: 161". ويقول "عز وجل": "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلي الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" "البقرة: 188". ويقول سبحانه: " ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" "النساء : 29".
وعن كعب بن عجرة الأنصاري "رضي الله عنه" قال: قال لي رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت . وكل لحم نبت من سحت فالنار أولي به" . ويقول "صلي الله عليه وسلم": "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة". و "يتخوضون" أي: يتصرفون في المال بالباطل.
فالرشوة في الإسلام محرمة بأية صورة كانت . وبأي اسم سميت . سواء تحت مسمي هدية أم غيرها. فالأسماء لا تغير من الحقائق شيئاً . والعبرة بالمضامين والمعاني لا بالاسماء ولا بالمسميات و فويل للراشين والمرتشين والساعين بينهم من غضب الله "عز وجل" في الدنيا والآخرة.