تشرفت بالحديث عن ديوان "حسبي ربي" للشاعر الكبير الراحل عبدالحميد الفرماوي "مداح الرسول" كما اشتهر في الأوساط الأدبية وذلك في نادي أدب الجيزة بصحبة الشاعر الكبير محمد علي عبدالعال رئيس رابطة الأدب الحديث الذي ربط بين ما قاله الشاعر من شعر دار معظمه عن القيم العليا وعن استاذية الرسول المبشر والنذير والمعلم وبين سلوك الشاعر الذي كان تطبيقاً لما يقوله فإذا قرأت شعره وجدته الشاعر وإذا تعاملت مع الشاعر وجدته ما قال شعراً وهو أمر يندر في كثير من الشعراء أو المتحدثين أو الرافعين لشعارات معينة. فإذا عايشتهم وجدتهم شيئاً آخر.
لكن الذي شغلني في الديوان الذي اتسم بالبساطة والعمق والقدرة علي الوصول إلي روح القارئ أو السامع إن صح التعبير هو علاقة ما يقوله الإنسان وروحه أو إخلاصه الأمر الذي استدعي كما قلت في الندوة النظر في نظرية النظم التي وضعها العالم العظيم عبدالقاهر الجرجاني حيث أراد أن يفسر بلاغة القرآن الكريم من خلال طريقة تركيب الجملة القرآنية وكان المثال الأشهر لعملية تركيب الجملة قوله تعالي "واشتعل الرأس شيبا" حيث قال لو أننا اعدنا تنظيم الجملة بأن جعلنا التمييز وهو "شيبا" فاعلاً فكانت "واشتعل الشيب في الرأس" لتغير معني الجملة وضعفت قوتها البلاغية ولم تعط المقصود منها حيث تصور الآية أن الشيب انتشر في كل الرأس بما يصور شيخوخة الرجل وكبره أما الجملة الثانية فلا تعطي هذا المعني.
لكني قلت في نفسي إن البلاغة أو عظمة القول القادرة علي الوصول إلي نفس المتلقي لينفعل بما سمع لا تقف عند ذلك وإنما كل كلام به من روح صاحبه ما به ووجدتني أتأمل قول الوليد بن المغيرة عندما سمع القرآن حيث قال "وما هو بكلام بشر" بعد أن وصفه بقوله "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلي عليه" إذن فالرجل وصله تأثير خاص أدرك معه أنه لا يأتي من قول بشر. كما وجدتني أتأمل ما يحدث حين يستمع طفل يبكي إلي القرآن فيصمت وينصت. ويستمع من لا يفهم العربية فيندهش لما يسمع كل ذلك لأن به من روح قائله.
كذلك أقوال البشر نثراً وشعراً فبقدر ما يخرج القول مفعماً بأرواحهم وبدرجة انفعالهم به بقدر ما يصل إلي نفوس البشر.
إنني اتصور لو أن فردين أو ثلاثة عمدوا إلي كلام واحد نثراً أو شعراً فقالوه لتغير تأثير الكلام من الواحد منهم إلي الآخر علي من يستمع رغم أنه هو هو الكلام وهو هو المستمع.
هذا الذي أقوله ينقلنا إلي قضية الإخلاص في القول والإخلاص في العمل التي هي مناط الانجاز والأداء المثمر وهو أمر يتراجع في عصرنا وعليه تراجع كل ما يترتب علي أي عمل من ثمار.. أذكر في ذلك المثل الذي قدمه رسولنا صلي الله عليه وسلم وهو يتحدث عن النية التي هي مفتاح الإخلاص وأصله حيث قال: فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فجهرته إلي ما هاجر إليه" فالمثل هنا هو الهجرة العظيمة التي بها من المشاق ما بها وبها من المعاناة ما بها إلا أنها تعود في كل أحوالها إلي الإخلاص للهدف والنية التي حملها صاحبها في داخله.
تروي كتب السير أن شيبة بن عثمان خرج مع المسلمين في غزوة "حنين" لكنه لم يخرج من منطلق إسلامه وإنما لأنه لا يريد لهوازن أن تنتصر علي قريش أي أن القضية لديه كانت قبلية فيقول فيما رواه ابنه مصعب عنه "بينما أنا أقف مع رسول الله صلي الله عليه وسلم قلت يا رسول الله: إني أري خيلاً بلقا فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر وضرب بيده علي صدره وقال اللهم أهد شيبة قالها ثلاثة فما رفع الرسول يده من الضربة الثالثة إلا كان رسول الله أحب إليه مما سواه.
لكل هذا أتصور أن إخلاص هذا الشاعر الراحل عبدالحميد الفرماوي فيما قال يحمل الكثير من أسرار تأثير ما كتب علي بساطته وسهولته فجاء ثرياً عميقاً يغرف من روحه.