المصريون
جمال سلطان
قضية المستشار هشام جنينه
حبس المستشار هشام جنينه عاما مع وقف التنفيذ لمدة ثلاث سنوات يعني إلزامه بالصمت وعزله عن أي حديث عن الفساد طوال تلك الفترة ، وإذا حاول الرجل أن يصارح الشعب والوطن من جديد بخطر الفساد أو حجمه أو المؤسسات المتورطة فيه من خلال الوثائق الرسمية التي أعدها الجهاز المركزي للمحاسبات ، فإنه قد يعرض نفسه للسجن إضافة إلى ما يستجد من عقوبات ، والحقيقة أن فرض الصمت على هشام جنينه هو إرادة نظام سياسي بكامله ، فقد تم عزله بصورة مشينة قبل انتهاء فترة ولايته بستة أشهر فقط بقرار من رئيس الجمهورية بموجب قانون أصدره خصيصا له ، وعندما لم يسكت حركوا له تهمة نشر أخبار كاذبة ، وهذه أول مرة تعلن فيها الدولة أن الفساد أخبار كاذبة ، رغم أن رئيس الجمهورية نفسه قال أن كل ركن في البلد ينخره الفساد ، والرقابة الإدارية وأكثر من جهة رسمية تحدثت عن تفشي الفساد وبأرقام قريبة جدا من الأرقام التي أعلنها المستشار جنينه ، وعندما لم يسكت أيضا طردوا ابنته من السلك القضائي لكي يوجعوه حتى في أهل بيته ، كما فرضوا عليه الصمت ومنعوا إذاعة أي حوارات تليفزيونية له ، وعندما سجل معه معتز الدمرداش وأعلنت القناة أكثر من مرة عن الحوار ، تم إبلاغ القناة ـ قبل موعد البرنامج بقليل ـ بوقف بث حديث هشام جنينه ، إذن ، هناك قرار نظام سياسي بفرض الصمت على الرجل ومنعه من الكلام ، فهناك حالة رعب من هشام جنينه وفزع من أن يصارح الشعب المصري بحقيقة الأمر . هشام جنينه حاكموه بتهمة نشر أخبار كاذبة ، لكنهم حتى هذه الساعة يهربون من الإجابة على سؤال الناس : ما هي إذن الأخبار الصحيحة في موضوع الفساد ، قالوا أنه لم يكن دقيقا عندما قدر فاتورة الفساد بستمائة مليار جنيه ، لكنهم لم يقولوا حتى هذه الساعة : ما هو الرقم الصحيح لفاتورة الفساد من وجهة نظركم ، قالوا أن تقرير الجهاز المركزي مبالغ فيه وأنه سيتم التحقيق فيه بمعرفة البرلمان ، وحتى هذه اللحظة لم ينظر البرلمان في التقرير بل إن أعضاء البرلمان يشتكون أن الجهات المعنية تمنع التقرير عن الوصول إليهم ، الصورة واضحة ، والقصة لا تحتاج إلى شرح . خلال ثلاث سنوات ونصف تولى فيها المستشار هشام جنينه رئاسته كان الشعب المصري يتابع جهود الجهاز المركزي للمحاسبات في ملاحقة الفساد والبحث عن الأموال المهدرة للشعب في مختلف المؤسسات ، وهي بالمليارات في وقت يناشد رئيس الدولة الغلابة أن يصبحوا على مصر بجنيه واحد ، ومنذ إقالة هشام جنينه لم يعد أحد يسمع عن شيء من هذا ، ليس لأن الفساد اختفى من مصر قطعا ، ولكن لأن هناك من يريد إخفاء الحقيقة ، بل إن اسم الجهاز المركزي للمحاسبات نفسه لم يعد أحد يسمع به ، إلا إذا أتت سيرة رئيسه السابق المستشار هشام جنينه ، أو أخبار محاكماته ، أو القضية التي رفعها في مجلس الدولة وطعن فيها بصحة قرار رئيس الجمهورية بعزله من منصبه باعتبار أنه محصن بالدستور ، وهي القضية التي جلبت له المشاكل والمتاعب . هشام جنينه كان النبض المؤسسي الوحيد المتبقى من ثورة يناير ، لذلك كانت بقية المؤسسات التي أحكمت الدولة العميقة قبضتها عليها تنظر إليه بسلبية ومرارة ، وشتموه علنا على الفضائيات واتهمه وزير العدل السابق بأنه إرهابي ؟!، كان الرجل يسبح عكس التيار الذي يفرض سطوته على كل شيء في بر مصر خلال السنوات الأخيرة ، ولذلك لم يصبروا عليه ستة أشهر فقط كانت باقية على فترة ولايته للجهاز ، وقرروا عزله والتنكيل به وبأسرته ، وقد كان بوسع الرجل ـ لو أراد وعصى ضميره ـ أن يساير التيار الجديد ، وأن ينافق أو حتى يغمض عينيه عما رأى ويسكت ، ولو فعل لكان الآن عزيز القوم وسيد المشهد وربما وجدناه مرشحا لرئاسة الوزارة الجديدة ، ولرأيته متصدرا الاحتفالات الرسمية بجوار الرئيس وقيادات الدولة ، يتجملون بوجوده ، لكن المستشار الجليل رفض أن يخالف ضميره ، ورفض أن ينحني ، ورفض أن يبيع مبادئه من أجل مغانم في متناول يده ، وقد واجه مبارك نفسه أيام سطوته بكل هذا الشموخ وثبت حتى انتصرت مصر بثورة يناير وأطاحت بمبارك وزمرته . إسكات هشام جنينه لن يفلح في إسكات ملايين المصريين الذين يرون الواقع الكئيب بدون حاجة إلى أجهزة أو مؤسسات ، إسكات هشام جنينه لن يفلح في إخفاء بؤس المشهد ، فقط ستبقى قضية هشام جنينه شاهدا على حقبة تاريخية غير مسبوقة في اضطرابها وتدنيها ، كما سيبقى الرجل نفسه رمزا وطنيا وقدوة لأجيال جديدة كانت في أمس الحاجة للقدوة .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف