اسامة الازهرى
الحضارة فريضة إسلامية (5)
أشرت فى بداية هذه السلسلة من المقالات إلى أننى اقتبست فكرتها من العنوان المبدع للأستاذ عباس محمود العقاد (التفكير فريضة إسلامية)، فأردت أن أنسج على منواله وكتبت المقالين الأول والثاني، وذهبت أبحث حينها عن صدى هذين المقالين، فوجدت ما أدهشني، ألا وهو أن فضيلة الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف الأسبق له كتاب مطبوع ومنشور بنفس العنوان: (الحضارة فريضة إسلامية)، وأنه طبع عدة مرات قبل نحو عشر سنوات على الأقل، فحرصت من ساعتها على أمرين: الأول هو عدم الاطلاع على كتاب فضيلته حتى أفرغ من هذه المقالات تماما، حتى لا أتأثر بأطروحة فضيلته التى لا أشك فى أنها قَيِّمة، وحتى تبقى فكرتى متدفقة فى مسارها دون تأثر، والأمر الثانى -وهو الأهم- أننى رأيت لزاما عليّ أن أشير إلى كتاب فضيلته، اعترافا له بالسبق إلى نحت هذا العنوان المبدع، والفضل دائما للمتقدم، ولكى أشير للقراء الكرام إلى وجود كتاب كامل فى هذه الفكرة، كتبه عالم كبير بوزن فضيلة الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق، فيكون هناك ثراء فى الكتابات فى هذا الاتجاه، وتتعدد المنابع التى تعالج نفس الفكرة، ويجد القارئ زادا كبيرا إذا أراد المطالعة والقراءة فى هذا المعنى، وأيضا لاستغلال هذه النقطة فى ترسيخ قيمة أخلاقية عليا وهى التراكمية والبناء المستمر، والإشادة بكل ما هو جميل وأصيل ومبدع ونافع، والعرفان لكل صاحب فضل وعطاء، والبر من كل جيل بعطاء الأجيال السابقة، ودعونى أعتبر كتابه هذا أول كتاب أشير على القراء الكرام باقتنائه، وأقترح أيضا أن نخصص فى معرض الكتاب القادم ندوة مشتركة تجمعنى مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمود زقزوق لنتحدث فيها سويا فى هذا المجال المهم، إحياء وبعثا وتنشيطا لهذه الفكرة، ودعما لتحويلها إلى قضية قومية أعتبرها بداية حقيقية لتحول كبير ومفيد لوطننا وأمتنا، وأنتظر الرد من فضيلته حتى ننطلق إن شاء الله.
وهذه هى القضية الأولى فى هذا المقال، والقضية الثانية هى أن إعادة تشغيل مصانع الحضارة فى عقل الإنسان المسلم من أهم الواجبات فى هذا الوقت، بحيث يرجع مرة أخرى إلى الاقتدار على قراءة الوحى الشريف من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فيتمكن من فهم آياته وإشاراته ونسق تفكيره، ودلالاته الرفيعة على قيمة العلم والمعرفة، وتقدير الحياة إلى أبعد حد، والشغف بالعمران، والحرص على استطلاع جماليات هذا الكون، وتدبر قوانينه، وفهم أسبابه، ومعرفة طبائع الكائنات والرحمة بها، والإبقاء عليها ممتعة بالحياة، وتأمل غرائب الجبال والبحار، واختلاف الليل والنهار، والسير فى الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق، ورصد قوانين الأفلاك والنجوم، ورصد القبة السماوية للاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر، مما يمكن من توليد علوم البحار، واختراق الآفاق، والانطلاق فى العالم كما انطلق الرحالة المسلمون الكبار: المقدسى البشاري، وابن بطوطة، والإدريسي، وابن جبير، وابن فضلان، وابن ماجد، وغيرهم، فنبغوا فى الجغرافيا، ورسموا الخرائط، ورصدوا طبائع الأمم والشعوب، فقطعوا خطوات فى مسار تعارف الحضارات والأمم، وما تختص به كل أمة من الطبائع والصناعات والمعارف والعلوم وتخطيط المدن، وإنشاء المؤسسات، والتفنن فى علوم الحياة، هكذا كان عقل الإنسان المسلم، وهكذا ينبغى أن يعود، كلما دار فى فلك القرآن فإنه يسترشد ويهتدى بعلومه إلى الإبداع والتألق، والفهم والاختراع، ورعاية الحياة بكل صورها، وإكرام الإنسان، واحترام الأكوان.
كل ذلك مع إلحاح القرآن الكريم على النظر والتفكر والتدبر والتعقل والعروج بالفكر للخروج به من ضيق الأنفس وشح الصدور ووحر النفوس والإغراق فى التناحر والتهجم والمماحكة والعدوان والانكفاء على الذات والنهش والتشفي، إلى رياض واسعة من صفاء الفكر، واتساع مشهده للجولان فى آفاق العلوم والمعارف، ومن هنا تولد بحق مقاصد هذا الشرع الشريف فى حفظ الأنفس والعقول والدين والأعراض والممتلكات والأموال، وسريان العلوم، وصناعة الحضارة.
إن الحضارةَ بحقٍّ فريضةٌ إسلاميةٌ، وكلما ألقى الإنسان نفسه فى نهر هذا الدين الحنيف السمح، وترك نفسه لتياره المتدفق الجارف ليرى أين سيذهب به، وجده يصب به لا محالة فى العمران وصناعة الحضارة وفقه الحياة الإبداع فى العلوم، وإنشاء المستشفيات ومراصد الفلك ومدارس التعليم فى اختلاف مجالات العلوم، والإبداع فى إنشاء البحث العلمى العميق، دون استهلاك العلوم من الأمم المحيطة بنا،.
(وللحديث بقية).