أصدقك القول إن شهادة ابنتي أستاذنا الراحل نجيب محفوظ حول شياطين الإنس الذين أحكموا حصارهم حوله في سني ما بعد الفوز بنوبل. وحاجته إلي الراحة والتأمل. والمخالطة بقدر ما تأذن له ظروف السن والصحة.. هذه الشهادة كشفت سخافات ملحة. أساءت إلي محفوظ وإلي أصدقائه الحقيقيين. بل وقرائه الذين وضعوه في مكانة صعد إليها بإبداع فازت نوبل بقيمته. بأكثر مما فاز محفوظ بالجائزة.
أنقل لك ما قالتاه: كان شخصاً جميلاً. لكن المحيطين به أساءوا له. ولنا. ولوالدتنا. وللعائلة. كانوا أسوأ شيء في حياة نجيب محفوظ بعد نجاته من الاغتيال. بعض الناس الذين ظهروا في حياتنا من شياطين الإنس. وبعد نوبل اتجندت ناس كتير حوله. كل واحد عنده أجندة ومصالح. وكانت حاجة صعبة جداً. كل واحد عايز يقرب ويعمل خطة عشان يبقي قريباً منه. ويطلع يقول كلاماً مش صحيح. وفي كل ذكري عيد ميلاد أو رحيل. بيكون أسوأ شيء إننا نتذكر شياطين الانس الذين كانوا محيطين به".
في كتابي "نجيب محفوظ صداقة جيلين" أشرت إلي لقاء مصادفة- عقب نوبل- بين محفوظ وبيني- سؤاله الذي لم يتبدل: أين أنت؟ كررت الاجابة نفسها: سأزورك بعد ان ينفض المولد!
لكن المولد ظل قائماً.
حاولت استعادة صداقتنا بالكتابة منذ أتاح لي شرف البنوة والتلمذة. واعتدت الجلوس إليه قبل أن تبدأ ندوته الاسبوعية في كازينو أوبرا. ثم صار من طقوس حياتي اليومية. زيارته في مؤسسة دعم السينما. وقصر عائشة فهمي وقهوة عرابي ومعظم الامكنة التي كان يتردد عليها.
وكان آخر لقاءاتنا قبل رحلة عمل إلي الخليج استغرقت ما يقرب من السنوات التسع. واعتبرت لقاءاتنا الهاتفية زاداً أعتز به. حتي نال جائزة نوبل فاستولي شياطين الانس علي أوقات هاتفه. كما استولوا علي أوقات جلوسه إلي نفسه. وإلي أسرته. حتي تسمية الحرافيش نسبوها إلي أنفسهم. فصاروا الحرافيش الجدد!
عدا جمال الغيطاني. فإن أدعياء القرب لم يلتقيهم نجيب محفوظ. لم يرهم ولا طرأوا علي حياته. إلا بعد ان أمسي نوراً يجتذب الفراشات الضالة.
لم يرحموا شيخوخة الرجل ولا مكانته. جعلوا منه موضعاً للابتزاز. وتحقيق الذات ولو علي حساب قيمة عالمية عالية.لعل أذكرك بآراء محفوظ في تطورات الصراع العربي الاسرائيلي.
أشار إلي ما قد يخالف آراء الغالبية من الشعب المصري. والمثقفين بخاصة. وقد عرضت لرأيي المخالف في كتابي "صداقة جيلين" لكنني احترمت المكانة والقيمة والابوة والصداقة لم اكتب بحبر الحقد والابتزاز ومحاولة تحقيق الذات بالاساءة إلي رجل عظيم. ذلك- للاسف- ما أقدموا عليه. ادعوا أنهم سألوه. وأنه أجاب. استعادوا آراء قديمة باعتبارها جديدة. ثم وجدوا فيها ما يستحق المؤاخذة والتشهير!
وجمع الصديق فتحي العشري ما كان نجيب محفوظ أملاه عليه أثناء تطوعه بالعمل سكرتيراً إعلامياً للرجل في فترة ما بعد نوبل. وأصدره في كتب توضح آراء محفوظ في العديد من قضايانا المحلية. وقضايا العالم.
فوجئ العشري بحملة عنيفة من الذين فرضوا أنفسهم ورثة لتراث محفوظ الابداعي. عابوا عليه إصدار الكتب. ذلك ما كان يجب ان يقتصر عليهم. ووصف أحدهم نفسه وجماعته بأنهم ورثة محفوظ الشرعيين.. هذا هو نص التعبير!
ولأن محاولة اغتيال نجيب محفوظ أثرت علي خطه. فصار رديئاً- بالمناسبة. فإني احتفظ بأوراق بخطه تحمل آراء له في حياتنا الثقافية- وانعكست رداءة الخط علي مفردات روايته "أصداء السيرة الذاتية" فعانت الكثير من أخطاء الجمع عند نشرها في الاهرام وأخبار الأدب.
ظل محفوظ علي رفضه لفكرة إصدار الرواية في كتاب. حتي أقنعه أستاذنا سعيد السحار بأن أراجع مخطوط الرواية. وأوضح ما غمض. وذلك ما فعلته بحب مطلق.
وكتب نجيب محفوظ موافقة خطية علي أن أقدم مجموعة من أحدث قصصه إلي واسط التسعينيات وأذن لي باختيار عنوانها "القرار الاخير".
طالعتني مجلة خليجية بكلمات إدانة. دفعتني إلي الاتصال بمحفوظ وإعطاء السماعة للزميل الصحفي ماجد حبتة كاتب تحقيق الادانة. وهو ما ذكرته المجلة في عدد تال!
وللأسف فقد تكرر هجوم الورثة الشرعيين"!" عندما قدمت مجموعة "فتوة العطوف" التي تضم بعض محاولاته الباكرة. ولأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. فقد كنت حصلت علي طلب- اعتبرته أمراً واجب التلبية- من نجيب محفوظ بكتابة المقدمة.
فرضوا علي الرجل حصاراً غريباً. صارح بملابساته أسرته وخاصة أصدقائه. نقل لي الراحل توفيق صالح ما كان يؤلمني من تصرفات شياطين الانس علي حد تعبير ابنة محفوظ. غلفوها بالكذب والمبالغة في منابر صحفية وإعلامية. فبركوا الحوارات والتصريحات والقراءات من خلال ما قرأوه عن محفوظ. وليس من خلال ما قرأوه له. فرضوا التعتيم والمصادرة علي الصداقات الحقيقية والاجتهادات التي تضع نجيب محفوظ في مكانته العليا.
توقعت ان توضح الاسرة أو الاصدقاء- في حياته. أو عقب الرحيل- حقائق ما غمض. ظل هذا هو توقعي حتي نشرت الاهرام العربي حوار ابنتيه أم كلثوم وفاطمة.
أيقنت أننا استعدنا نجيب محفوظ من أسر خاطفيه!!