سكينة فؤاد
نصر 56.. ودروس بورسعيد للاستعمار القديم والجديد
يوم الجمعة الماضي أتي العيد الستون لملحمة النصر الذي صنعه أبناء مدينتي بورسعيد في الثالث والعشرين من ديسمبر 1956 أتي العيد الستون وبشائر فجر تنمية وتعمير وادارة علمية ووطنية لكل ما حباها الله به من ميزات ومقدمات كمدينة من أهم مدن البحر في الدنيا.. بشائر فجر طال انتظار أبناء المدينة له وبعد أن عانوا كافة صنوف الألم وأشكال الاهمال وتخبط السياسات والقرارات ودون مبالاة بما أجمع عليه الخبراء أن ميناء شرق بورسعيد يستطيع أن يكون من أكثر المواني جذبا لحركة التجارة العالمية، وأيضا من أكثرها امتلاكا لمؤهلات التحول إلي مركز عالمي لتداول الحاويات، علاوة علي ما يتمتع به أبناؤها وبناتها من تراكم أرصدة المقاومة والنضال والتضحية.. كثير من المؤرخين يؤكدون أن الشرارات الأولي لثورة 1919 انطلقت من بورسعيد.. أعظم تجليات هذه الصفات كان فيما فعلوه في معركة 1956 والتي كانت المقاومة الشعبية وفرقها العشر الأساسية ـ مثل قلب المواجهة مع من تسلل من الفدائيين وشارك من الجيش والشرطة الذين تلاحموا وقادوا المقاومة الشعبية وهزيمة وطرد الجيوش الثلاثة الغازية.. مازالت أوراق المعركة تحتاج إلي قراءات أعمق لأحداثها.. تاريخ الوطنية والمقاومة الساكن في مكونات أبناء المدينة.. جعل غضب أبنائها علي جماعة الإخوان التي أعلنت عليهم الحظر فأحيوا ساعات حظر التجول بالخروج إلي شوارع المدينة واقامة مباريات كرة قدم بينهم وفي تلاحم وحماية قواتهم المسلحة بتاريخها الوطني الممتد مع أبناء القناة، وكانت شرارات غضب أبناء بورسعيد في مقدمة أسباب اسقاط حكم الجماعة التي كانت قد أعدت مشروعا لاقتطاع القناة ومدنها من جسد مصر ومنح ادارتها والسيطرة عليها واستثمار كنوزها وموقعها لداعميهم ومموليهم وممولي سائر الجماعات الارهابية في المنطقة وحتي الآن.
في أول عيد للنصر في 23 ديسمبر 1957 تجول الرئيس جمال عبد الناصر في القناة التي حررتها معركة ومقاومة وانتصار 1956 من مخطط العدوان الذي أعد لإعادة الاستيلاء عليها. واتخاذ الانتصار علي أبناء بورسعيد مدخلا لإعادة احتلال مصر كلها.. بمفرده وفي قارب بحري عبر الرئيس عبد الناصر القناة المحررة والمنتصرة بأيدي أبناء بورسعيد ـ وفي العيد الستيني للنصر وبعد سنوات طويلة من تجاهل الاحتفال به يرتبط الاحتفال هذا العام بإعلان إنجاز مجموعة من المشروعات القومية التي طالب الرئيس بأن تتوج الاحتفالات وتلبي ما حلم به وتمناه أبناء المدينة وآباؤهم وأجدادهم وتعالج وتقضي بالتدريج علي معاناتهم وأرقام الفقر والبطالة التي لم تعرفها المدينة في أزمنة ازدهارها عندما ظلت لعشرات السنين الأولي بين محافظات مصر في معدلات التنمية البشرية والصحة والتعليم والدخول وفرص العمل ـ وبين ما طالبوا به منذ أكثر من ربع قرن كوبري عائم يربط بين بورسيعد وبورفؤاد، أو بين افريقيا وآسيا، وبما يجعل العبور بينهما لا يتجاوز دقيقتين ونصف وبعد المشكلات والأعطال التي بدأت تتعرض لها الوسيلة التاريخية والتي كانت في البداية رحلة بحرية ممتعة في معديات بحرية أنيقة تنقل السكان ذهابا وإيابا وليس فقط ما يحققه انشاء كوبري الرسوة من تسهيل عملية العبور بين القارتين بل أيضا دعم آفاق التنمية المنتظرة في بورسعيد والمنطقة كلها والابداع الهندسي لانجازه في ثمانية أشهر، وإن كنت أتمني أن جميع الملاحظات ودقة الشروط الفنية تتخذ قبل تنفيذ الكوبري الذي طالب الكثير من أبناء بورسعيد بنقل مخرج النزول إلي ما بعد مدخل المدينة لإحكام السيطرة التي لا تتحقق بوجود هذا المخرج قبل المدخل؟! وأيضا الاحتفال بتوزيع عقود ملكية 58 مصنعا للشباب في المنطقة الصناعية وتسليم المرحلة الأولي من الاسكان الاجتماعي 7941 وحدة وإن كانت الأزمة المتراكمة منذ عشرات السنين في الاسكان بالتحديد تتطلب نصيبا أكبر لبورسعيد من مشروعات الاسكان بعد أن تجاوزت قدرات المحافظة.
وفي إطار مشروعات حضارية لتسترد المدينة رونقها التاريخي والثقافي حيث كانت حاضنة لإبداعات أدبية ونهضة مسرحية ومؤتمرات ثقافية يقوم بها من أنجبت المدينة من فنانين ومبدعين ونقاد ـ ولفتني في اطار التجميل والاحتفاء بالزعماء وفي اثنين من أكبر ميادين بورسعيد تم إقامة تمثالين للرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السادات ـ وهذا أمر محترم ولكن السؤال.. أين الرمز الذي يمثل البطولات الشعبية وصناع نصر 56 في ميادين بورسعيد ـ لماذا لا تكون هناك دعوة لما لدي مصر من أروع المبدعين التشكيليين لنصب تذكاري لشاب وفتاة من أبطال مقاومة ونصر 1956 ـ وآخر لعامل وفلاح من الذين حفروا القناة يوضع علي القاعدة التي كان يقف فوقها ديليسبس في مدخل القناة ـ والتي لم يكن حفرها من أفكاره فهي تعود لمصر القديمة ـ ولم تسل دماؤه ولم يفقد حياته فيها بل سخرها لخدمة مطامع بلاده ومخططات المنتفعين والمستعمرين ـ وليستقر تمثال ديليسبس في متحف من متاحف بورسعيد التاريخية فقد كان إسقاط الفدائيين عام 56 لتمثاله من رموز المقاومة والانتصار.
سلام علي مدينة يجري مع الدم في عروق أبنائها الكرامة والوطنية، وسلام علي كل من شارك في صناعة النصر من أحياء عند ربهم ومن أحياء بيننا أتمني أن يعاد تكريمهم ـ البطل «محمد مهران» الذى ضحى ببصره عندما خيره الغزاة الإنجليز بين الاحتفاظ بنور عينيه مقابل الادلاء بكل ما لديه من معلومات عن الفدائيين وفرق المقاومة فاختار سلامة بلاده، وعاش يُبصر بنور محبتها منذ تاريخ المعركة وحتي الآن. إن انتصار 1956 من أهم ضربات النهاية للاستعمار القديم الذي عاد إلي المنطقة الآن متواطئا ومتحالفا مع المخططات الأمريكية والصهيونية والعملاء والحلفاء الإقليميين لفعل المستحيل لكسر إرادة واستذلال واخضاع هذا الشعب العجيب الذي لم يتوقف عن افشال خططهم لفرض النفوذ والسيطرة الصهيونية علي المنطقة.. بدلوا قواتهم وجيوشهم التي أذلها وهزمها أبناء بورسعيد بعملاء وأدوات محلية واقليمية ودولية وتنظيمات إرهابية واستخدام شيطاني للدين وتحويلنا إلي شعوب وجماعات متناحرة ومتقاتلة تهديهم بأيدينا ما فشلوا في تحقيقه بأيديهم.
أتعجب لمن لا يرون ما يمتلئ به المشهد الوطني والقومي من أخطار وتهديدات.. أتعجب لمن لا يستدعي المشهد ما لديهم من ضمائر وحس وطني بضرورة حشد جميع قوانا وقدراتنا وإمكاناتنا، وأن تكون أولي الأولويات دعم الظهير الشعبي الأكثر احتياجا لتخفيف آثار الضغوط والحروب الاقتصادية والارهاب عليهم، وإثبات أن سلالة صناع نصر 56 وجميع حلقات المقاومة والانتصار التي يمتلئ بها تاريخ مصر ـ لن تستطيع ضغوط أو تحديات أو مخاطر أو مخططات استعمار قديم أو حديث أو عملاء اقليميون ومهما كان قدر ملياراتهم المدفوعة أن تكسر إرادة وكرامة شعب هزم أبناء مدينة من أصغر وأجمل مدنه قوات الغزو البرية والبحرية والجوية لثلاثة جيوش.