عندما كنت أجري حواراتي مع المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل عن عبد الناصر، وهي التي نشرت في كتابي: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون. حكي لي الأستاذ هيكل - يرحمه الله رحمة واسعة - أن عبد الناصر حدث أن استدعي عبد المنعم القيسوني، وكمال رمزي ستينو. وطلب منهما قائمة ما تستورده مصر من الخارج.
قال لهما إنه كان بكباشي وقت أن قامت الثورة. وكل ما لم يكن يدخل بيته لا يصح أن نستورده مهما كانت المبررات. وعندما جاءا بالقائمة شطب منها كل الكماليات، مسترشداً بنفسه وبوضعه وبعائلته وببيته. قال لي الأستاذ هيكل أن عبد الناصر عندما كان يقرأ قائمة ما نستورده كان يصاب بالدهشة. ويرفع عينيه عن الورق الذي أمامه ويبدي استغرابه لأن نستورد ما كان في القائمة.
المهم أن ما لم يدخل بيت عبد الناصر شطبه الرجل بلا تردد. لأنه ابن أصيل لتاريخ مصر وتجربتها العظيمة التي تعرف المصري بأنه هو الذي يزرع طعامه ويصنع سلاحه. ولا يعتمد علي الخارج إلا في أضيق الحدود. هل نحن الآن في حاجة إلا لكي نطبق ما جري في الأمس القريب من إدراك عبد الناصر وفهمه لقضية الاستيراد من الخارج.
عندما ترد كلمة استيراد تردفها في ذهني كلمة تصدير. فإن كان الاستيراد يعني أننا نستورد بعملة صعبة، ربما كنا في أمس الحاجة إليها لأمور ربما لم تكن مهمة. فإن كلمة التصدير تعني أننا نصدر ما ننتجه للخارج، ونبيعه بعملة صعبة تحل الكثير من مشاكلنا.
أي اختلال بين ما نستورده وما نصدره يؤثر علي خزانتنا بالسلب. بسبب زيادة الاعتماد علي العالم في السنوات الأخيرة. أقول السنوات الأخيرة وأنا أقصد فترات من الزمن ماضية أصبحت عقدة الخواجة تحكم ما نستهلكه من أطعمة وما نستخدمه من أدوية وما نرتديه من ملابس وما نستعمله من أدوات.
يؤلمني عندما أكون في المحال العامة، وأسمع الباعة يقدمون المنتج المصري للمستهلكين، فيكون رد فعلهم أنهم يريدون المستورد. يقول لهم البائع أن المستورد غال، مبالغ في سعره، فيكون الرد غريباً عندما أسمعهم يقولون: الغالي ثمنه فيه. تسعدني الكلمة إن كان المقصود منتجاً مصرياً. أما إذا كانت تشير إلي ما نستورده فهي كلمة مؤلمة بلا حدود. وأتمني أن يمتد بيَّ العمر حتي أستمع لعبارة: أن الوطني ثمنه فيه. بدلاً من كلمة الغالي.
نشرت جريدة الفجر في عددها الأخير تحقيقاً كتبته ميرفانا طاهر، عنوانه التمهيدي: خطوة أولي لإنعاش الصناعة المحلية ووقف نزيف الدولار، والعنوان الرئيسي: إنهاء فوضي الاستيراد الاستفزازي. وكلمة السلع الاستفزازية تطاردنا نحن أهل مصر منذ أن أطل علينا الانفتاح الاقتصادي. الذي داهم حياتنا في أعقاب تحرير كبري هي حرب السادس من أكتوبر. وأكل بداخله المنجز الذي حققه الشعب المصري في تاريخه الطويل.
يقول التحقيق أن فاتورة الاستيراد في مصر تصل من ٧٫٥ إلي ٨ مليارات دولار شهرياً. أرجوك أن تترجم هذه الدولارات إلي جنيهات مصرية بعد الخلل الذي أصاب سعر الدولار. وبعد أن تحول الدولار لسلعة بعد أن كان مجرد عملة نتعامل بها.
ووفقاً لمصلحة الجمارك فإن السلع غير الضرورية أو الاستفزازية تشكل 5 مليارات دولار. ورغم أن التحقيق يقول إننا لا بد أن نحد منها، فأنا أقول ليتنا نستغني عنها. ونقول لها وداعاً. ونستخرج من عقولنا وأذهاننا الخيلاء الاجتماعي الذي يدفعنا لاستيرادها من الخارج.
هل يعقل أن تستورد مصر سنويا مستحضرات تجميل بمليار دولار؟ وأن تستورد مصر فواكه ثمنها 2.6 مليار دولار، وخبزاً مقرمشاً بـ 250 مليون دولار. وشيكولاتة بـ 280 مليون دولار. وورق كوتشينة بـ 690 ألف دولار. أعيد الجملة للتأكيد أن ورق الكوتشينة يكلف مصر 690 ألف دولار سنوياً.
وورق الكوتشينة لمن يعلم أو الذي لا يعلم رغم أنني أشك أنه يوجد من لا يعلم ورق يستخدم في لعب ننتج منه ربما ما كان أفضل مما يأتي من الخارج. ولكن ما دام الأمر يدور حول ورق لعب، فما الذي يضيرنا كمصريين من أن نستغني عن اللعب بورق الكوتشينة؟ وعن استخدام ورق الكوتشينة في قراءة الطالع. ماذا سيحدث لنا لو عشنا بدون ورق كوتشينة أي فترة قادمة من الوقت؟.
العاب الفيديو فاتورتها 2.25 مليون دولار. الزجاج 8 ملايين دولار، الأجهزة الكهربائية 2.7 مليار دولار. الفطائر الجاهزة 140 مليون دولار، الألعاب النارية 600 مليون دولار، المنتجات الجلدية 100 مليون دولار، ومنتجات الأساس 2 مليون دولار.
لن أوجع قلبك بأننا نستورد فواكه وخضروات، هل يعقل أن نستورد الجوافة والبرتقال واليوسفي والمشمش والخوخ والبرقوق والكمثري والفراولة، وطعام قطط وكلاب وأن التي تستورد هي مصر، سلة خبز الدنيا في التاريخ القديم، فكيف وصلنا إلي هذا الحال؟ وماذا ننتظر أكثر مما نحن فيه؟ أوقفوا مهزلة الاستيراد من الخارج قبل فوات الأوان.