جمال سلطان
أنيس العامري .. الدرس التونسي لمصر والعرب !
السؤال الذي طرحته أكثر من جهة إعلامية غربية كبيرة خلال اليومين الماضيين ، هو : لماذا يأتي معظم الانتحاريين الإرهابيين من تونس ، وكان ذلك بعد أن توصلت التحقيقات إلى أن الشاب التونسي أنيس العامري ، المهاجر في ألمانيا ، هو المتورط في جريمة سحق العشرات من المدنيين الأبرياء تحت عجلات حافلة اقتحم بها حفلا بمناسبة اقتراب أعياد رأس السنة ، وفي السيرة الذاتية التي نشرت للشاب التونسي والتي استقصوها من سجله القانوني في إيطاليا التي وصلها أول مرة عندما هاجر في هجرة غير شرعية ثم التحقيقات في مكان مولده ونشأته في قرية تونسية فقيرة ، توصلت إلى أن الشاب نشأ نشأة عادية وكان محبا للأغاني والرقص ولم يكن لديه أي ميول دينية أو أيديولوجية ، وفي إيطاليا كان معروفا بكثرة احتساء الخمور والتورط في جرائم سرقة ، وقد تم القبض عليه في واقعة سرقة وسجنه أربع سنوات ، ولما خرج سافر إلى ألمانيا العام الماضي وقدم أوراق لجوء لكنها رفضت ، وتعرف على شخص مرتبط بتنظيم داعش قبل حوالي ستة أشهر ويبدو أنه هو الذي أقنعه بالانضمام إلى التنظيم المتطرف ومن ثم ارتكب العملية الإرهابية الخطيرة . السؤال الذي طرحته وكالات أنباء وفضائيات دولية كبيرة ، لماذا يأتي أكثر الانتحاريين من تونس ، له وجاهة بالفعل ، لأنها ظاهرة ، الإرهاب متفشي في بلدان كثيرة ، ولكن عددا كبيرا ولافتا من الإرهابيين المنضمين لداعش والذين انتشروا في العراق وسوريا وليبيا ثم أوربا هم من التونسيين ، وفي الطريق إلى الإجابة على هذا السؤال المهم ، نتذكر أن تونس كان يحكمها نظام سياسي ـ بورقيبة وخلفه بن علي ـ يميل بشدة إلى العلمانية المتحررة والفنون والحداثة في ثوبها الأوربي سلوكا وفكرا ، ومحاصرة التدين ومظاهره ، سواء كان الدين الرسمي أو الجماعات الدينية سواء كانت معتدلة أو غير معتدلة ، فقد قضى على حركة النهضة المعتدلة وطاردها وشتت قياداتها خارج البلاد وألقى القبض على كوادرها في الداخل وزج بهم في السجون ، كما أن المؤسسة الدينية الرسمية تم محوها بالكامل تقريبا ، وكلية الشريعة هناك كانت لا تختلف عن كليات اللاهوت في أي دولة أوربية ، وكان طلابها وطالباتها يرتدون الثياب الأوربية ويتريضون مختلطين ويسبحون سويا حتى بالمايوهات العارية ، ومسجد القيروان ـ المناظر للأزهر في مصر ـ تحول إلى متحف يقصده السياح لالتقاط الصور والذكريات ، وهذه الخلفية التاريخية تعني أن الدين أو التربية الدينية أو حتى التراث الإسلامي لم يكن سببا في نشأة جيل متطرف أو شبان يميلون إلى الإرهاب بهذا الاتساع في تونس ، بل يمكن القول أن عملية "الفراغ الديني" التي صنعها بن علي وبورقيبة من قبله ، هي التي أفرزت أجيالا جاهلة دينيا ومفرغة مما سهل على الكيانات المتطرفة أن تملأها بأفكارها الخطيرة وبسرعة ويسر مدهشين ، لدرجة أن يتحول شاب منحرف أخلاقيا مثل أنيس العامري من لص ومهرب مخدرات إلى إرهابي خلال ستة أشهر فقط وبسهولة شديدة . الحقيقة أن هذا السؤال المطروح الآن في تونس ، جدير بأن يدق أجراس الخطر لدينا نحن هنا في مصر ، لأن الأصوات الجاهلة أو الانتهازية زادت هذه الأيام لتحمل الدين والتراث الإسلامي ومؤسساته الكبيرة مثل الأزهر مسئولية ظهور الإرهاب ، رغم أنه لم يثبت أبدا أن إرهابيا معروفا تخرج من الأزهر أو درس على مشايخه ، بل جميع الإرهابيين تقريبا كانوا خريجين من مدارس وجامعات التعليم العام المدني ، وخطورة عملية التحريض على الأزهر أو التعليم الديني أنها تهدد مستقبل البلاد بجيل من المهمشين دينيا والمفرغين من أي حصانة علمية دينية ، والذين لم تمتلئ عقولهم ووجداناتهم بسيرة سلف هذه الأمة الصالح ، ولم يمتلئ وعيهم بالعلوم الشرعية من مصادرها الأساسية في تراث الأمة وعبر جهود مؤسساتها الرصينة والوسطية والمعتدلة وعلمائها المؤتمنين ، فهذا "الامتلاء" هو وحده الذي يحول بين الشباب وبين أن يستسهل أي متطرف أن يملأهم بأفكاره المغلوطة أو المنحرفة أو الدموية ، بينما تفريغ عقول ووجدان هؤلاء الشباب من علوم الدين وتراث الإسلام يجعلهم أكثر قابلية للانحراف الفكري وصيدا سهلا للمتطرفين . الحرب على الأزهر والتراث الإسلامي وحملة التشهير بالجمعيات الدينية والنشاطات الدينية في المجتمع ليست حملة بريئة من سوء النية ، وأجزم أنها ليست لوجه الله ولا الوطن ، وإنما هي لأهداف أخرى ، بعضها له خلفية الخصومة الأيديولوجية مع الدين نفسه ، وبعضها خصومه سياسية مع الأحزاب والقوى الإسلامية الناشطة سياسيا ، وبعضها له خلفيات طائفية محض استغلالا للمناخ المحبط من العمليات الإرهابية ، وأؤكد من جديد على أن مثل تلك الحملات وهذا التحرش هو خدمة مباشرة للإرهاب ، وتمهيد الأرض لانتصاره فكريا في وعي الأجيال الجديدة المفرغة والمجهلة دينيا ، كما أن هؤلاء الذين يقولون أن مواجهة الإرهاب تكون بالفن والأدب والحداثة يضللون الأوطان ، وتجربة تونس من أوضح ما تكون ، كما أن الإرهابيين الذين نشطوا في باريس وروما وبرلين ، كانوا غارقين في محيط من الفنون والحداثة والانفتاح بأقصى صوره ، ومع ذلك سهل جذبهم إلى الإرهاب خلال أشهر قليلة . لا تسمحوا للانتهازية السياسية أو الأيديولوجية أو الطائفية أن تفرض وصايتها على الدين ومؤسساته وتراث الإسلام ، حذار من هذه اللعبة ، لأن الوطن وحده هو الذي سيدفع فاتورتها المروعة لأجيال عديدة مقبلة ، لا سمح الله .