بحسب النظرة الأمريكية للشرق الأوسط الجديد، فإن رسم خريطة المنطقة يعتمد على استراتيجية (الفوضى الخلاقة) والتى تستهدف (هدم الأنظمة -تحطيم الجيوش -تقسيم الدول العربية)، وبحسب تنظيمات الإرهاب -الدين السياسي-، فإن مشروع التمكين وصولاً إلى دولة الخلافة يعتمد على (هدم الأنظمة -تحطيم الجيوش -إقامة الإمارات الإسلامية).
ويكفينا من كلا المشروعين أن نختصرهما فى الأدوات، لأن الهدف المباشر من هذه السطور هو تسليط الضوء تماماً على الأدوات التى تستهدفنا حالياً، بحيث نتحول إلى أسرى لجرعاتها تدريجياً، تحيلنا واحدة تلو أخرى إلى مصارعة سكرات الفزع المستمر من قادم غامض؟، بحيث نستيقظ كل صباح على مقطع مصور أو مسرب، لرءوس تُهشم، أو رقاب تُجز، أو أجساد تُحرق، وصولاً إلى نماذج إنسانية جديدة منزوعة الفِطِر الربانية، بحيث تقبل التخلى عن فلذات أكبادها بدعوى الجهاد، لتسوق صبيتين فى عمر البراءة إلى ساحة التفخيخ فتنفجر إحداهما فى وجه العالم الجديد أمريكى الصناعة والإنسانية.
إن جرعات الصدمة التى تتجرعها الإنسانية العالمية عموماً، والعربية على وجه التحديد، لم تنقطع منذ أن سقطت بغداد تحت وطأة الغزو الأمريكى الذى بشر به (جورج بوش الصغير)، بدأت الجرعات (المتوحشة) حين سرب لنَّا البنتاجون مقاطع (سجن أبوغريب)، حين قرر الإنسان الأمريكى أن يطبق (سادية) السينما الأمريكية واقعاً، وأن يحيل أفلاماً مثل (كوماندو رامبو) إلى واقع ساحته التى منها ينطلق هى (العراق)، وكانت ذروة التصاعد وقتها هى استيقاظ العالم العربى صبيحة عيد الأضحى على مقاطع مسربة لإعدام الرئيس العراقى الراحل (صدام حسين).
أمريكا فرضت أدوات اللعب على ساحة المعركة وعلى متابعيها أخباراً وتسريبات، ثم عممتها فى أشرطة سينمائية جاوزت مائتى فيلم ما بين روائى وقصير ووثائقي، ولم يكن مهماً أن تكون هذه الأعمال مؤيدة تماماً للاحتلال الأمريكى للعراق، حيث إن بعضها جاء كاشفاً لوحشية الحملة، لكن الأهم كان أن تنتقل التفاصيل إلى واقع البشر خارج حدود أرض المعركة، حتى وإن بلغت التداعيات الداخل الأمريكي، وهو ما عالجه المخرج (بول هاجيس) فى فيلمه (جريمة فى وادى ايلاه) المأخوذ عن مقال للصحفى (مارك بول)، والمنشور بمجلة (بلاى بوي) الإباحية ويروى تفاصيل جريمة قتل شاب هرب من وحدته العسكرية بعد عودته من العراق، ويسعى والد الشاب لفك لغز مقتل ابنه حتى يكتشف أن الجناة عدد من الجنود، رفاق ابنه فى العراق، والذين حولهم الوجود على الأراضى العراقية لمجموعة من الساديين مدمنى التعذيب والتشويه.
هكذا سينمائياً تذوق المجتمع الأمريكى تَوَحُّشْ أدوات صناعة العالم الجديد، فى حين فرضها علينا واقعاً نعايشه ويعايشنا، مجتثاً إحساس المواطن بالأمان على المستقبل، وقدرة الأوطان على أن تؤمن مواطنيها، لكن الأخطر أن جرعات التوحش التى يجب أن تدمنها مجتمعاتنا كان لا بد لها من أدوات توصيل، أو باللغة الدارجة (ديلر)، وهنا تبرز (وسائل الإعلام) بشقيها (التقليدى الجديد)، وعند العودة إلى الحالة العراقية الأولى نكتشف أنه وبمجرد احتلال أمريكا للعراق، كان أن ظهرت للنور مباشرة عشرات القنوات العراقية الفضائية، واستطاعت أن تتفوق عدداً على القنوات الفضائية التابعة لأى دولة عربية، وبالتوازى مع ذلك دخل العالم العربى فى فضاء الإعلام الإلكتروني، بحيث يتشتت الرأى العام المجتمعى بين تبعيات فضائية خطابها (الزعيق) الملون بلون الممول، وبين تبعيات إلكترونية خطابها (الزعيق) الملون بتبعية الأفراد. ولأن النموذج العراقى مر على بدايته أكثر من عقد ونصف عقد من عمر الإنسانية، فإن ذاكرتنا القريبة يمكنها أن تراجع حالة الفوضى الإعلامية التى واكبت ثورات الربيع العربي، لتحصر عدد القنوات التى ظهرت مباشرة فى (تونس مصر ليبيا سوريا اليمن)، ومن لم يستطع أن يحجز له تردداً على القمر الصناعى (نايل سات أو عرب سات)، بإمكانه بكل بساطة أن يحصل على تردد قريب من قمر آخر فى نفس المدار وتلتقطه الجماهير.
إن جرعات التوحش التى يتعاطاها العقل العربى خلال الفترة الأخيرة قادرة على أن تحقق تماماً أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد (الأمريكى الإرهابى المشترك)، والرامى إلى (هدم الأنظمة تحطيم الجيوش تقسيم الأوطان)، وبالتالى فإن الانسياق إعلامياً وراء تسويق مواد التوحش يمثل خيانة من أحد حصون البناء والمقاومة الوطنية للغزو القادم، وهنا تتجلى الحاجة الوطنية والقومية إلى إعادة فرز الخطاب الإعلامى العام لتكون المعالجة قائمة على رصد وفرز وتعرية لا مجرد إعادة تصدير لما هو مطلوب أن يشيع دماً ويسود توحشاً، إن التطرف الذى تواجهه الإنسانية ليس مجرد متطرف ساق ابنته لتنفجر وإنما نظام عالمى يسعى ليرسم خريطته الجديدة خالياً من الأب المتطرف وابنته ونحن معهما، إنها ماكينة عالمية ترانا لا نستحق أوطاننا ولا الحياة.