محمد جبريل
ع البحري .. الحنين إلي بحري
تشغلني زيارة بحري. أنصت إلي حكايات عروس البحر. أسلم قدمي إلي الموج أسفل الصخرة. في نهاية الأنفوشي. أصيخ السمع لبركات المرسي أبوالعباس. ومكاشفاته. أرنو إلي أفق البحر. الغموض. وزرقة السماء. والفراغ الممتد. وتقلبات الجو. يغمرني الإشفاق لخطوات عفريت الليل المتعبة. لو انه يضع في يدي عصاه الطويلة. أدسها داخل الفانوس الزجاجي. فأضيء المكان. ارافق الشيخ فتوح في اختراقه الشوارع والحارات والأزقة. يردد الابتهالات والأهازيج. يدركني التعب. فألوذ بأقرب رصيف. أكرر قصة جوركي "رهان". أغلق مكتبة النن علي نفسي من الداخل. أواصل القراءة فلا أتوقف. ثمة من تسير - ليلاً - علي كورنيش البحر. تلتقط من يستهويها. تصحبه إلي حدائق الشلالات. ثم تمضي قبل ان يتطرقا إلي الأمور الشخصية. أو حتي قبل ان يتبادلا اسميهما. المئات من البحارة الأجانب يعيشون - في شوارع الحي - نشوة النزول إلي البر. أكتم في نفسي السؤال: هل يتاح لي السفر إلي الموانئ البعيدة؟
للحي - رغم انقضاء السنين - خصوصيته التي يصعب تحديدها. أو لا يمكن تحديدها. لعلها التقاء البحر واليابسة. واختلاط البلانسات والمساجد والمزارات والبنايات القديمة. فقد الكثير من ملامحه. لكنه يظل قريباً إلي نفسي. لم يفصله التغير. ولا انقضاء السنين. في داخلي يقين ان ما أسير في شوارعه وحواريه وأزقته هو بحري الذي عرفته. بحري الطفولة والنشأة والذكريات التي لا تمحي. تتباطأ الخطوات. اتأمل البشر والشرفات والنوافذ والمحال المفتوحة والمغلقة والمقاهي والأكشاك. أقلها علي حاله. وأغلبها تستدعيه الذكريات.
البحر يشكل حضوراً في حياة أهل بحري. مهن غالبيتهم ووظائفهم. والسمك الذي يحل زائراً دائماً لموائدهم. والأفق المترامي. المحيط بالحي من جهات ثلاثة.
رائحة البحر في الأنفوشي والمينا الشرقية ترافقني الي مدن العالم. ليس بالتطابق. وإنما بالاختلاف. لا استطيع التحديد. وإن ميزت بحري بالاقتراب منه. تغيب الرائحة في وقفتي أمام الشواطئ المطلة علي البحر في مدن العالم.
اخترع ماركيث قرية ماكوندو Macondo محصلة لغالبية الأماكن التي رآها. وعاش فيها. داخل وطنه كولومبيا. واتصالها بدول أمريكا اللاتينية.
بحري هو اختراع الطبيعة والبيئة. البحر والموقع الشبيه بجزيرة والصيد وعبق الروحية.
أكلم نفسي: لو أني امتلكت موهبة تحسن التعبير عن هذا المكان. عن هؤلاء الناس. عن الميادين والساحات والمساجد والأضرحة والمقامات والموالد والجلوات وحلقات الذكر وشروات السمك؟
يراودني خاطر ان أعد حقيبتي - حقيبة واحدة لا أكثر - وأعود إلي بحري. لا يشغلني موضوع ما. ولا أعرف إن كنت سأنصرف إلي القراءة أو الكتابة. أو إلي النزول للشوارع التي اعتدت السير فيها. وعناق الناس والأمكنة. أو إلي مجرد التأمل. لكن الخاطر يلح بما قد لا أستطيع مغالبته.