جمال سلطان
فتاوى الكريسماس ومولد النبي !
مع اقتراب أعياد الكريسماس في مصر انتشرت حكايات الجدل الديني حول مشروعية الاحتفال بالكريسماس من عدمه بالنسبة للمسلمين ، على اعتبار أن هذا العيد له طابع ديني يخص بعض عقائد إخواننا المسيحيين ، ويبدو أن بعض الجهات وجدتها فرصة فنفخت فيها ، وصدرت فتاوى من دعاة سلفيين وفتاوى مقابلة من علماء بالأزهر ، وفتاوى أخرى عشوائية من نشطاء ومن إعلاميين ومن سياسيين ومن برلمانيين ، الكل يفتي ، باعتبار أن الفتوى تحولت إلى جنس التصريحات السياسية والإعلامية ، ولم يقف الأمر عند تعارض الفتاوى بل وصلت للتراشق والاتهامات هنا وهناك ، بالتسيب أو التشدد ، بالابتداع أو التطرف ، حسب خندق كل مفتي ، وشغلت المسألة مساحة واسعة من الصحف والمواقع والفضائيات والرأي العام بصفة عامة ، ثم ها هي تعود إلى بياتها الشتوي بعد مرور المناسبة ، انتظارا لموسمها الجديد في العام المقبل ، وبعد أن حققت المستهدف منها ، والناس تسلت عن بعض همومها ومشكلاتها الحياتية المؤلمة ! . ولفت نظري أن البعض اعتبر هذا الجدل دليلا عن عودة عصور الظلام والأفكار الظلامية ، والبعض نسبها للتطرف الذي تفشى في التراث الإسلامي والذي يجب تنقيته من مثل هذه الآراء ، والبعض اعتبر أن هذا يثبت أن الأزهر لم يقم بواجبه في تصحيح المفاهيم وتجديد الفكر الديني ، رغم أن هذه المسألة مثل مئات المسائل الدينية الأخرى محط خلاف حتى داخل الفضاء الديني المسيحي نفسه ، وقد كان مفاجئا في نهاية العام 2013 ، وفي مناسبة احتفالات الكريسماس اعتراض البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، على تلك الاحتفالات بعيد الميلاد واصفا إياها "بالجاهلية" وقال أنها تعطي صورة زائفة مبنية على حكاية خرافية مائعة، لا وجود لها فى الإنجيل، على حد تعبيره الذي أطلقه في صلاة التبشير الملائكي في عيد القديس ستيفانو الشهيد الأول وقتها . تصريحات بابا الفاتيكان ، أو "فتوى" الفاتيكان عن الكريسماس وأنه عادة جاهلية ، لفتت انتباه الإعلام الدولي الذي تناقلها حينها على نطاق واسع ، ونشرت هنا في مصر في جميع الصحف اليومية تقريبا وبثتها وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية ، ولكنها "فتوى" مرت بعدها مرورا عابرا ، لم يجرؤ أحد ، لا هناك ولا هنا ، على أن يتهم البابا بأنه "ظلامي" ولا طالب الفاتيكان بتنقية التراث الديني من مثل هذه الأفكار المتخلفة والتي تحض على الفتنة ، رأي ومضى ، ومضت الناس هناك في مشاغلها وهمومها ومصالحها واحتفالاتها أيضا ، ولكم أن تتخيلوا لو أن هذه الفتوى ، بتلك الصراحة ، صدرت عن عالم أزهري ، أو الداعية السلفي الشيخ ياسر برهامي ، أعتقد أن المناحة كانت ستنعقد للفكر الديني لمدة شهر على الأقل . الأمر نفسه تكرر في الاحتفال بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث تذهب بعض "الفتاوى" إلى أنه بدعة باعتبار أنه لم يرد عن النبي نصا ولا فعله أصحابه من بعده ، وآخرون يعتبرونه مستحبا لأنه يذكر بسيرة النبي القدوة ويستحضرون بعض الآثار التي تبرر رأيهم ، وهاجت "الخناقة" الفكرية كالمعتاد ، وانتشرت الفتاوى حتى ملأت الفضاء ، وتراشق بالاتهامات بين التشدد والتطرف والابتداع والميوعة ، ثم ذهب الجدل وفترت الفتاوى ، ولم يتبق من ذكراها سوى شكوى مصانع الحلويات من أن الحال كان "مايل" هذا العام في المبيعات التي زهد فيها الناس ، ليس بسبب الفتاوى ، وإنما بسبب ارتفاع سعر كيلو السكر . بدون شك ، أن الأعياد التي أصبح لها طابع شعبي واسع وعالمي ، مثل ما ذكرنا ، أصبحت أبعد ما يكون عن خلفياتها الدينية ، تحولت إلى مناسبات شعبية متوارثة للسعادة والبهجة والترويح عن النفس ، والناس تهنئ بعضها البعض فيها على هذا الأساس ، دون نظر إلى أي أصول دينية للمناسبة ، وهذا أشبه بالموالد التي تنتشر في صعيد مصر والدلتا ، حيث تجد "مولد" لولي من أولياء الله الصالحين يعتقده مسلمون يحضره آلاف من الأقباط نساء ورجال وأطفال يفرحون ويسهرون ويتاجرون ، وكذلك موالد لولي يعتقده المسيحيون من الصالحين يحضرها آلاف من المسلمين نساء ورجال وأطفال يفرحون ويسهرون ويتاجرون ، ونادرا ما كانت الناس تتوقف عند هذا الأمر بالجدل والنقاش ، باعتبار أنه لا يمثل خطرا على عقيدة أو دين ، وإنما هو أقرب لاحتفالية شعبية يسعد فيها الناس ويتخففون من همومهم ومتاعبهم . وأذكر أنه في أعقاب ثورة يناير 2011 اختفى تماما من المشهد المصري مثل هذا الجدل ، ونادرا ما كنت تسمع نقاشا أو اشتباكا في الفتاوى حول هذه الموالد ، سواء الكريسماس أو مولد النبي أو ما شابه ، كانت حركة المجتمع فوارة بالأمل والطموح في بناء حياة جديدة ، والجدل السياسي الحر والجاد ، ومناخ جديد من الحرية والانفتاح أعاد ترتيب أولويات هموم الناس ، وأعاد تشكيل نظرتهم للحياة والمجتمع ومكوناته ، حتى السلفيون لم يكونوا مشغولين بالمولد وفتاواه ، وإنما مشغولون بإنشاء حزبهم وتوسيع مقراته والاستعداد للانتخابات ، ولم يجد الأزهر ولا دار الإفتاء حاجة لإصدار فتاوى عن هذا المولد أو ذاك ، إلا بيانات تهنئة عادية ، كان نهر الحياة جاريا وممتلئا بالحيوية والبهجة والأمل في حياة أفضل ، فلما جف هذا النهر وتهمشت مساحة العمل العام وانحصرت الأحزاب كما كانت سابقا في شقق متناثرة في بعض الأحياء وهمشت القوى السياسية عن المشاركة الفعالة وعادت القبضة الحديدية ومناخ الخوف ، عادت معها فتاوى الكريسماس ومولد النبي ، تملأ الفراغ الذي عاد ، وعاد معها بعض "الكهنة" الذين يحدثونك عن ضرورة إصلاح الخطاب الديني لأنه سبب المشكلة .