المصريون
جمال سلطان
لماذا تشكك الناس في واقعة الرشوة الجديدة ؟!
عاش الناس في ذهول أمس واليوم بعد الإعلان عن ضبط قضية رشوة متورط فيها موظف في أحد الإدارات التابعة لمجلس الدولة ، حجم الأموال التي تم ضبطها ، والتي حرصت أجهزة في الدولة على تصويرها ونشرها وتعميمها على الصحف والمواقع ، ضخم للغاية ، حوالي 24 مليون جنيه مصري وأربعة ملايين دولار أمريكي ومليوني يورو ومليون ريال سعودي ، بخلاف مشغولات ذهبية كثيرة جدا ، والحصيلة تقدر إجماليا بحوالي مائة وخمسين مليون جنيه ، هذا بالإضافة إلى عقارات وسيارات وممتلكات أخرى جاري حصرها ، هذا في قضية فساد شخص واحد ، موظف واحد ، وهو ليس موظفا كبيرا ، وهو ما جعل الناس تتساءل عن "فاتورة" الفساد الحقيقية في الدولة إذا كان الأمر كذلك ، وأيضا كان اسم المستشار الجليل هشام جنينه حاضرا في كل التعليقات ، حتى من خصومه ، وهناك إجماع الآن على ضرورة أن تقوم الدولة برد الاعتبار للرجل الذي قال أن فاتورة الفساد في مصر خلال السنوات الأربع الماضية تصل إلى حوالي ستمائة مليار جنيه ، فاتهموه بأنه ينشر "إشاعات" وترويج أخبار كاذبة وحاكموه وأهانوه ، الآن يبدو أن تقديرات هشام جنينه كانت متواضعة أو متحفظة ، لأن غالبية المصريين الآن مقتنعة بأن فاتورة الفساد أعلى من ستمائة مليار جنيه بكثير . الملاحظة الأخرى في ملابسات الكشف عن تلك القضية هو انتشار حالة الشك والتحفظ تجاه ما نشر من معلومات فيها ، وهذه مسألة أصبحت ظاهرة حاضرة في كل بيان يصدر عن مؤسسات الدولة وأجهزتها ، لم تعد الناس تصدق بسهولة ، ضباب الشك أصبح متفشيا في مناخ مصر تجاه السلطة ومؤسساتها حتى لدى رجل الشارع العادي ، لا أحد يصدق الدولة ، ربما من كثرة ما واجه الناس من وعود كاذبة أو من بيانات يثبت بعد ذلك أنها غير صحيحة ، البعض حاول تصوير عملية ضبط هذا المرتشي الآن بأنه تعمد إحراج لمجلس الدولة الذي تزعم رفضا صارما للهيئات القضائية لمشروع قانون يضع رئاسة المجلس رهن قرار رئيس الجمهورية وليس اختيار الجمعية العمومية أو أقدم نواب رئيس المجلس ، وهو قرار ـ إذا تم تمريره ـ يطعن استقلالية القضاء في مقتل ، ويشوه سمعته أكثر ، وفي تقديري أن هذه الفرضية ضعيفة وغير مقنعة ، لأنه لا يضر مجلس الدولة أو غيره أن يكون هناك موظف فاسد أو حتى قاض فاسد ، وقد تم ـ من قبل ـ ضبط قضاة فاسدين أو مهربين للمخدرات دون أن يهين ذلك سمعة القضاء ، لأنها مؤسسة بشرية ، وهناك من أبدى شكوكه في كون القضية قضية رشوة ، واعتبر أنها أقرب لقضية تجارة العملة ، نظرا لتنوع العملات التي تم ضبطها وبكميات كبيرة ، كما أنه لم يذكر حتى الآن اسم الراشي كما لم تذكر واقعة ضبط الرشوة نفسها ، وكل ما نشر هو ضبط المبالغ النقدية في بيت المشتبه به . الملاحظ أنه منذ إطاحة المستشار هشام جنينه من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات ، ولم يعد أحد يسمع للجهاز الرقابي الضخم ذكرا ولا حسا ، كأن صفحته طويت ، بينما الطريق مفتوح على الآخر لهيئة الرقابة الإدارية ونشر جهودها والتغطية الإعلامية الرسمية الكبيرة لملفات الفساد التي تكشفها ، وبطبيعة الحال لا بد وأن توجه التحية لجهود الهيئة في ملاحقة الفساد ، وقد كشفت أكثر من قضية كبيرة وحساسة قبل ذلك ، وكانت موثقة بالصوت والصورة ، مثل قضية وزارة الزراعة ومثل قضية قاضي المساومات الجنسية ، ولكن الناس ستبقى تتساءل عن "الجمل" وليس "الركاب" ، عن الحيتان الكبيرة ، عن المليارات ، عن فساد المؤسسات وليس فساد الأفراد ، فإذا كان موظف عادي ثبت فساده بمبلغ يصل إلى مائة وخمسين مليون جنيه ، فكم هو حجم فساد المؤسسات ، وما الذي تم عمله في الملفات التي عرضها الجهاز المركزي للمحاسبات وسلمها لرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة وللبرلمان ، وتصل لمئات المليارات من الجنيهات الضائعة على خزينة الدولة ، بل أين هو التقرير نفسه الذي قال مجلس النواب أنه سيناقشه ثم اختفى تماما ، بدون الشفافية الكاملة في هذا الملف لن يقتنع الناس أن الدولة جادة فعلا في ملاحقة الفساد "الثقيل" ، وستبقى شكوك الناس متكررة في وقائع ملاحقة "الحالات الفردية" . كل الشكر لرجال هيئة الرقابة الإدارية على جهدهم الوطني المشرف ، وطيب الله ذكر المستشار الجليل هشام جنينه ، الذي تحول إلى رمز مكافحة الفساد في ضمير كل القوى الوطنية ، وأثبتت الأيام أنه كان رائدا لم يكذب أهله ، حتى وإن بدا أنه كان صارخا في البرية .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف