الوطن
سهير جودة
زمن الشهرة الردىء
هل هى مصادفة أم مؤامرة أن تتعملق ثقافة وقيم الانتهازية وأن تختلف المعايير والقيم، ويتم تجريف الوعى عبر السنين، فنختل ونحتل بأفكار وقيم وسلوكيات الهدم، فننبهر بالتوافه وننحاز إلى البريق الزائف ويتم إقصاء التنوير والإنجاز، وتسحبنا رمال الجهل إلى أدنى، فنهبط ويستبد الضعف، فنرى الأدنى أعلى ونسبح نحو الهبوط بإصرار ونجاح كبير؟، وبينما تنحاز المجتمعات القوية إلى الإنجاز والعمل والعطاء، ويتناسب هذا مع معرفة المجتمع وتقديره للإنجاز، نرى المجتمعات الضعيفة تمنح الفرص للنصابين والدجالين ومعدومى الكفاءة والأكثر شهرة، للنصب على الناس بشتى أشكال وألوان النصب، بينما من يملك الإنجاز لا يعرفه أحد، والقيم الحقيقية لا يتبناها أحد، لأننا نهتم بتوافه الأمور وبالمظاهر، وبكل بريق كاذب، ومن يمتلك الإنجاز والعلم والوعى والعمق لا يهتم بالشهرة، بل يزهدها، وأحياناً يرفضها ولا يبحث عن تقدير، يائساً من ثقافة مجتمع تمنح التقدير والإعجاب لمن لا يستحق، وتصفق لأصحاب البلطجة والصوت العالى والفساد العالى، ولنا فى ما يحدث بانتخابات مجلس الشعب نموذجاً واضحاً فى من يجيد الشو والتسويق وخداع الناس هو الفائز.

لا ينخدع إلا الجاهلون فى أغلب الوقت والظروف والأحداث، نقدر من لا يستحق ومن لا يمتلك شيئاً حقيقياً وأحياناً من يمتلك فائضاً من جهل وكذب، وكثيراً نفاجأ بأصحاب الجهل الفاخر يمتلكون الحظ الفاخر، ويتصدرون المشهد والمناصب، وعندما يغيب الوعى والعلم والموضوعية يصبح التسويق والشو والأكاذيب هى معايير النجاح، ويزداد مهاويس الشهرة، التى تنمو وتزدهر بكثافة واجتهاد ونرى أشخاصاً جعلت منهم الشهرة مرضى، فيتصورون أن لديهم مقدرة على فعل كل الأشياء، وفى ظل اختلال واحتلال المجتمع بكل الأمراض الاجتماعية والأفكار الكارثية فإن هذه السلالة تنمو وتتضخّم، فيصبح المجتمع متخماً بالأكاذيب الكبيرة والإنجازات الضعيفة.

وأصبحت نماذج مثل الدكتور مجدى يعقوب، أو الدكتور فاروق الباز أقلية، لأنهم يمتلكون القيمة والعلم والإنجاز، بينما فى المجتمعات القوية تصبح هذه النماذج هى الأغلبية، وفى مجتمعاتنا نادراً ما نجد الطبيب مثلاً أو المهندس مثقفاً ومنجزاً وإنساناً ومشهوراً، لنبقى مجتمعات عاطفية، لكن ليست إنسانية.

فنحن ننفعل ونفكر بمشاعرنا، لكن الإنسانية فى المجتمعات المتقدّمة شىء طبيعى وتلقائى، وكلما كانت المجتمعات أكثر تحضّراً كان البعد الإنسانى لديها أكبر، لكن نحن نكتفى بغريزة العاطفة دون عقل، بينما التحضر شعور وإدراك وتعليم وأهداف، فالجهل بتنويعاته عدم تقدير العقلى للأشياء، يجعلنا نقع فى فخ الوهم، فنتصور أن كل مشهور فى مجاله إذا امتلك درجة من درجات الثقة، فلا بد أن يمتلك منصباً، وأنه إذا امتلك، يصنع معجزات، فمعيار الحكم هو الشهرة دون أن نمتلك معرفة ما إذا كان صاحب هذه الشهرة له إنجاز وعلم أم أنه مجرد نموذج جيد، فى ظل سيادة نماذج وأنماط شديدة السوء، وحيثما احتل المجتمع بالضعف، انقلبت معاييره، وتزايدت عناصر الصدفة والحظ وسارت الأمور فى الاتجاه المعاكس والأشياء التى تعد نقيصة تتحول إلى ميزة ونقطة تفوق ثم شهرة وإعجاب، ونستطيع أن نقرأ اختلال المعايير فى عدة نماذج وأنماط وأفكار واضحة، منها رجل الدين الذى لا بد أن يكون على علم ورصانة وثقافة وأخلاق واحترام هذا النموذج لا نراه إلا نادراً، بينما الأكثر شهرة وتأثيراً هو من يمتلك السطحية وكل أدوات النصب الجميل الذى يحميه التحدث باسم الدين، بينما هو من يهين الدين، وبالتالى نرى منهم أراجوزات يقدمون كل أشكال الابتذال، وكل منتجات الجهل بحثاً عن الشهرة، وعن الأموال، وعن الألقاب، بينما يتوارى المؤثر والمحترم، لأنه لا يجيد فن التسويق أو يعرف عن الشهرة أو لديه درجة عالية من الثقة والاستغناء.

المجتمع الجيد القوى ينجب العلماء، والمجتمع الضعيف ينجب الجهلاء، لتسود القيم الرديئة.

نموذج آخر صارخ فى اختلال معايير العلم هو الشهادة الجامعية، فالمجتمع يلهث وراء الشهادة، باعتبارها الوجاهة التى تعطيه مكانة وتميزاً وليس مهماً أن يكون صاحب الشهادة الجامعية عاطلاً أو جاهلاً، بينما الجزء الذى يحمل الإنجاز الحقيقى مهمل، والجميع يعزف عنه ويتجنبه، سواء كانت الدولة أو المجتمع، وهو التعليم الفنى، فهذا التعليم إنجاز ومهنة وفن، لكن الثقافة المختلة والمظاهر التى نعبدها جعلتنا ننظر بعين الوصمة إلى هذا التعليم وهذا المنجز، ونتوهم أن دخول الجامعة والحصول على شهادة هو القيمة التى لا بد أن نصل إليها، ومن أبرز المعايير المختلة فى المجتمع السلوك الشرائى، فنحن فى مجتمع فى مجمله يعانى الفقر الاقتصادى، لكننا مجتمع يعيش بمركبات النقص والعقد، فيبحث عن الأشهر من العلامات التجارية فى الملبس والمظهر والتظاهر الاجتماعى والتنافس فى المظاهر، ومؤكد أن هذه العقد لا تمثل هذه الأهمية فى المجتمعات التى تنتج هذه العلامات التجارية، لأنها تهدف إلى التصنيع والتصدير، وليس الاستهلاك والمنظرة، ولأننا ندرك ضآلة وضحالة الإنجاز الشخصى والعام، فنبحث عن أوهام تحقق لنا إنجازات وهمية، فنرتدى الأغلى ونقتنى السيارات الفارهة، ونقيم الأفراح ببذخ، بينما تبقى هذه الأشياء فى المجتمعات القوية هى الاستثناء، فالثرى لا يعلن عن ثرائه بسيارته وطريقة حياته واحتفالاته ومظهره، كلما كان المجتمع فقيراً فى إنجازه تختل معاييره ويبحث عن أوهام يتخفى فيها ليقتنع بأنه عظيم، وتصبح صلة القرب والقرابة هى الوهم والكذب والمظاهر، ويصبح العلم والوعى أعدى أعدائه، وبالتالى تبتعد المسافة بينه وبين التقدم والرقى، ليصبح على البُعد بأعوام ضوئية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف