محمد ابو الفضل
النخب العربية والخلافات السياسية
من الطبيعى أن تكون هناك خلافات سياسية بين الدول العربية، وسط تصاعد حدة المشكلات الإقليمية، وتباين الرؤى حول التعامل مع الأزمات، وتعقيدات الحسابات الدولية، لكن ليس من الطبيعى أن ينتقل خلاف الدول إلى النخب الثقافية والإعلامية، التى أصبحت عنصرا للتسخين، بدلا من التهدئة والتبريد، ومدخلا لتوسيع الهوة، بدلا من ردمها.
المتابع للحروب التى تدور رحاها منذ فترة، فى عدد من وسائل الإعلام العربية، والفضاء الالكترونى الواسع، يكتشف أننا أمام أمة تأكل بعضها، وليست بحاجة لمن يتآمر عليها وينهش جسدها، وقد تجاوزت المعارك كل حدود اللياقة، ووصلت إلى مرحلة خطيرة لتكسير العظام العربية، بطريقة تؤكد صعوبة التفاهم حول أى قضية، مهما كان حجمها، صغيرا أم كبيرا.
المناوشات المختلفة التى كانت تدور من وراء الكواليس، وصلت إلى حد فاضح، وتخلت عن الغمز واللمز، وأصبحت ظاهرة بطريقة، يصعب وقفها أو نهرها، ربما تكون التكنولوجيا فتحت مجالا لكثير من البسطاء للتعبير عن آرائهم، لكن المشكلة أن قطاعا كبيرا من النخب انساق وراء أسلوب المهاترات والمزايدات، وبدأ فى عملية توظيف سيئة لمواقع التواصل الاجتماعي، تقوم على نشر الشوفينية، ودغدغة مشاعر المتابعين، وهو ما كانت له انعكاسات سلبية، حيث أسهم هذا الاتجاه فى إيجاد رأى عام مؤيد لقيادته السياسية ضد أى دولة عربية، دون النظر للأسباب التى أفضت إلى الخلاف، أو التفكير فى وقفه.
وجود هذا النوع، وإدمان الحياة على الفضاء الالكتروني، اصطحب معه شريحة من النخب، لا تتوقف عن الصخب فى وسائل الإعلام التقليدية، وشن حملات مؤيدة لمواقف قيادتها، ومناهضة بالطبع للدولة المختلف معها، وهى ظاهرة قديمة، الجديد فيها، اتساع عدد المؤيدين، وزيادة نبرة العداء للآخر، واختفاء الأصوات العاقلة تقريبا، بصورة توحى بالعودة إلى طريقة الحروب التقليدية التى تمعن فى العداء.
شيوع هذه الظاهرة، ساعد على تكريس الفجوة، وضاعف من صعوبة العمل على تسويتها، لأن البعض رفع سقف الخلاف، وأدخله مربعات تتجاوز حدود الدفاع عن المصالح المشروعة، واستخدام مفردات تتعلق بالكرامة والعزة والاستقلال والوطنية والزعامة والقيادة، وكل ما يستحث الوجدان، ويدفع نحو تغليب التفكير بالمشاعر لحساب تغييب العقل، الأمر الذى أدى إلى الصعود لسفح الجبل، ولأن النزول منه يحتاج تمارين معينة، سوف تبقى الخلافات العربية معلقة عند هذه النقطة، حتى يتم وضع خطة متقنة للتقارب حول ضرورة الهبوط بأقل خسائر ممكنة.
المثير أن الحرب الشعواء، جاءت فى وقت تزايدت فيه أعداد النخب العربية الواعية، وتنوعت مشاربها، ولم تعد مقصورة على الدول المركزية فقط، فهناك نخبة محترمة فى غالبية دول ما يسمى بالأطراف العربية، من الخليج وحتى المغرب العربي، يمكن التعويل عليها، فى رسم قواسم مشتركة، بعيدا عن الأطر السياسية، التى تحتاج المزيد من الوقت لتندمل جراحها.
تفعيل خيار النخبة الثقافية والإعلامية البديلة، يعيد إلى الأمة العربية قدرا من العافية السياسية، لأن هؤلاء لديهم الكثير من مفاتيح الحل التى تساعد الرأى العام على التقليل من النزعات القُطرية، وتقدم لصناع القرار حلولا، يمكن أن توقف نزيف الخلافات السياسية، وتدفع نحو التفكير فى تسويات خارج المعادلة الصفرية، التى أصبحت طاغية فى توجهات كثير من القيادات.
بمعنى محاولة صياغة رؤى للتفاهم، تحفظ لكل طرف هيبته ومصالحه، وتحد من الانزلاق فى مزيد من المعارك والشرور، التى سيخرج منها الجميع خاسرا، واليقين أن المصلحة الإستراتيجية البحتة تقتضى الحفاظ على الكيانات العربية، فدخول بعضها فى حروب أمنية وسياسية وإعلامية، سوف تكون له تداعيات خطيرة على الجميع، حتى لمن يتصورون أن مجرد انتصار رؤيتهم يعنى التفوق وطول الذراع.
التفوق لن يكون مكتملا، إذا جرى تدمير أى دولة عربية، ولعل مشاهد الحروب والخراب والدمار خلال السنوات الماضية، تؤكد أن الخسارة النهائية لن تستثنى أحدا، حتى من دخلوا فى عداء سافر مع البعض، ولعل التدقيق فى النتائج التى يمكن أن تفضى إليها الأزمة السورية، يكشف حجم المخاطر المقبلة، وقد يكون كفيلا بأن يردع من يصمم على المضى إلى آخر النفق فى الخلافات.
بالتالى توضيح الصورة بزواياها وأبعادها الحقيقية، هو المدخل الصحيح للنخب العربية، لأن الاستغراق فى الأحلام والطموحات الوردية، بذريعة امتلاك صك التفوق والزعامة، أو بحجة اختلال موازين القوى وتهميش الدول المركزية التاريخية، سوف يؤدى إلى زيادة حدة التجاذبات، لذلك فالتعامل بواقعية مع الملفات والقضايا، وبلا رتوش ومساحيق إعلامية، يصلح ليكون مقدمة للحد من تفاقم الخلافات، فعندما تدرك كل دولة ارتفاع حجم الخسائر ومحدودية المكاسب، بمعايير المصالح الإستراتيجية، يمكن أن ترتدع عن الاستمرار فى العداء.
كما أن عودة التواصل بين النخب العربية، يمثل وسيلة مهمة لتصعيد التفاهم من مستوى القاعدة إلى القمة، فرغم الزيادة العددية والكيفية فى النخب المحترمة، غير أن الحوار يكاد يكون مفقودا فى غالبية الأحيان، وما يتم فى بعض الدول الآن من ضجيج ثقافي، يبدو مقصورا على من هم يقفون فى المربع الواحد، واستمرار الانتقائية الفكرية، من الآفات التى تعطل أى مشروع للحوار على المستوى النخبوي، والخروج منها، يفتح طاقة أمل لزيادة رقعة التفاهم العربي.
لذلك فالانفتاح على اتجاهات وتيارات مختلفة، من الممكن أن يكون عاصما لكثير من المشكلات، واستمرار التغييب، سيكون عاملا مساعدا لعدم مبارحة الطريق التى تمشى فيه بعض القيادات العربية، ويقوم على اعتياد سماع الصوت الواحد.
تبدو الفرصة مواتية حاليا، لأن تتولى المراكز الثقافية فى مصر أو بعض الدول العربية زمام هذا الأمر، وتدعو إلى سلسلة من الحوارات، عنوانها الرئيسى يدور حول أهمية التوصل إلى أفكار مشتركة، توقف نزيف الخلافات، وتضع روشتة سياسية لآليات التفاهم بشأن القواسم العربية اللازمة، للحد من الأزمات، قبل أن يأتى يوم وتجد فيه الأمة نفسها عاجزة تماما عن التفكير فى مواجهة التحديات.