جمال سلطان
اتفاقية وقف إطلاق النار .. انتصار جزئي للثورة السورية
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساء اليوم عن توقيع اتفاق سوري سوري برعاية وضمانات روسية تركية مشتركة ، لوقف إطلاق النار بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية المتحالفة معها وبين قوى الثورة السورية بكافة تشكيلاتها العسكرية أو غالبيتها العظمى ، وقد قدر وزير الدفاع الروسي حجم فصائل جيش الثورة التي وقعت الاتفاق بحوالي اثنين وستين ألف مقاتل ، ويقضي الاتفاق باستثناء تنظيم داعش من وقف العمليات العسكرية ، وهناك خلاف حول ما إذا كان يشمل جبهة النصرة المتحدرة عن تنظيم القاعدة أم لا يشملها ، والذي يستشف من الجدل والخلاف والآراء المختلفة من الجانب الروسي وجانب المعارضة أن الاتفاق لا يشمل النصرة لأن مجلس الأمن صنفها إرهابية ، ولكن الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة وتكون فيها النصرة لا يتم استهدافها عسكريا ، ونظرا للتداخل الشديد بين كتائب النصرة وقوات المعارضة فإنه من الناحية العملية الاتفاق يشمل النصرة . الاتفاق اعتبر أن القرار الذي يسري من منتصف الليلة سيكون خطوة تمهيدية لانطلاق مباحثات لتسوية الأزمة السورية في الآستانة ـ عاصمة كازخستان ـ انطلاقا من مقررات مؤتمر جنيف 1 واعتمادا على مرجعية قرار مجلس الأمن رقم 2254 ، والذي يتحدث عن مرحلة انتقالية في سوريا وانتهاء دور بشار الأسد بعدها ، وهذا يعني بوضوح أن روسيا ـ عمليا ـ لم تعد تراهن على الأسد ونظامه ، والحقيقة أن هذا من الناحية الاستراتيجية تحصيل حاصل ، لأنه لا يوجد أحد في المنطقة ولا العالم يتصور أن هذا الدكتاتور الهمجي يمكنه أن يبقى في حكم بلد دمره بهذا الشكل وقتل من شعبه قرابة نصف مليون وشرد حوالي ثمانية ملايين ، وهم نصف شعبه ، ودمر نصف مدن بلاده ، وحول سوريا إلى أكبر محنة إنسانية في الألفية الجديدة ، ولكن القشة التي كان يتعلق بها بشار ونظامه دائما كانت خوف العالم من البديل المجهول ، وصعوبة ترتيب نظام حكم بصورة سريعة وآمنة تخلف نظام بشار المتهالك ، خاصة وأن بعض القوى المتطرفة مثل داعش والنصرة تمتلك قدرات عسكرية عالية ويمكنها أن تربك أي ترتيبات من هذا الشكل ، والدرس العراق والليبي حاضران دائما. الاتفاق من الناحية المعنوية والرمزية يمثل نصرا سياسيا جزئيا لقوى الثورة السورية ، لأنها فرضت أجندتها تقريبا على الجانب الروسي ، الراعي الأهم والداعم الأهم لنظام بشار ، بل هو المهيمن والموجه لنظام بشار في الحقيقة ، ونص الاتفاق على أن المعارضة المسلحة هي التي ستحدد من يمثلها في حوار الأستانة ، وهذا يعني أن المعارضة التي تشكلت في القاهرة والأخرى التي حاولت موسكو وبشار صناعتها قد تبخرت ولا وجود لها في أي تسوية ، أيضا يضمن الاتفاق مرور قوافل الإغاثة الغذائية والطبية والإنسانية بشكل آمن إلى جميع المناطق السورية المحاصرة من قبل النظام ، كما يقرر الاتفاق الواقع الحالي للأراضي السورية ، حيث لا يسيطر نظام بشار سوى على قرابة 25% وإن كانت قيمتها أنها في المدن الكبيرة ، خاصة بعد سيطرته على حلب بدعم روسي رهيب ودموي ، بينما تسيطر المعارضة على مساحات كبيرة تقارب نفس مساحة النظام خاصة في أرياف المدن وأكنافها في الشمال والوسط والجنوب ، وهناك مدن في الشرق مثل الرقة وتدمر تسيطر عليها داعش ومساحات يسيطر عليها ميليشيات الأكراد الذين يطمحون في تشكيل دويلة صغيرة في الشمال الشرقي لسوريا . تركيا حققت نصرا ديبلوماسيا وسياسيا صريحا ، ونجحت في الوصول إلى ما تريد في ظل تعقيدات كبيرة للغاية للمشهد الإقليمي والدولي تجاه الملف السوري ، وخيانات أمريكية وخذلان أوربي ، وألاعيب خلفية لواشنطن مع الأكراد والدواعش ، وورطة كانت خطيرة بإسقاط الطائرة الروسية والاقتراب من حافة الحرب مع الروس في الوقت الذي قرر حلف الناتو أن يسحب صواريخه المضادة للصواريخ من تركيا في نفس الوقت ، وهي واقعة مذهلة في فضائحيتها . بصبر ودأب وتراكم خبرة ديبلوماسية عريقة ، حققت تركيا التوازن بين موقفها الأخلاقي من الثورة السورية كداعم لها وراع ، وبين حماية مصالحها التي تتهدد الآن بشكل غير مسبوق من قبل تنظيم داعش والمنظمات الكردية التركية والسورية والتي تضرب تفجيراتها الإرهابية الآن في عمق تركيا وتربك نظام أردوغان ، فخففت تركيا من حدة خلافها مع الروس ثم حولته تدريجيا إلى تحالف استراتيجي ، سياسي واقتصادي وعسكري ، وفهمت ما تريده روسيا في سوريا فلعبت معها من هذه الزاوية ، كما أدركت الحصار الدولي الذي بدأ يفرض على الثورة السورية وتمزقها بين قوى دولية وإقليمية كل منها له حسابات خاصة ، ورأت أنه من الصعب على الثوار أن يحققوا حسما عسكريا ضد جيوش أربع دول من بينهم دولة عظمى : روسيا وإيران والجيش النظامي السوري وجيش حزب الله اللبناني ، إضافة إلى ميليشيات مسلحة كبيرة من العراق وأفغانستان ، وتدرك تركيا أن بشار ونظامه انتهى عمليا ، وأن أي عملية سياسية ستفضي في النهاية إلى تغيير النظام السياسي في سوريا ، ورأت ـ وهي محقة ـ أن الخاسر الأكبر من تحويل الصراع إلى طاولة المفاوضات هو النظام السوري وحلفاؤه ، وهم قد تجرعوا الاتفافية الأخيرة كما يتجرعون السم ، ولكنهم لا يملكون قرارهم لكي يرفضوا أو حتى يتحفظوا ، فبشار كان في طريقه إلى الهزيمة المخزية قبل أن ينقذه التدخل الروسي الكبير ، وإن كانت المخاوف من محاولة تحريك بعض الميليشيات الشيعية لتخريب الاتفاق . يمثل الاتفاق الجديد ، من زاوية إنسانية ، مكسبا للشعب السوري والمدنيين الذين عانوا من ويلات الحرب ، وقصف الطائرات الذي لم يحدث في أي مكان في العالم بتلك الكثافة والخراب الواسع الذي تعمد النظام إحداثه في المدن لإجبار أهلها على الخضوع ولإجبار قوات المعارضة على إخلائها ، لدرجة أنه كان يركز قصفه على المخابز والمدارس والمستشفيات والمساجد ومحطات الكهرباء وكل ما يتصل بالحياة العادية لتحويل حياة الناس إلى جحيم . الاتفاق تم برعاية روسية تركيا ، وضمانات من الدولتين بالتزام الجميع بوقف إطلاق النار ، ويبقى التنفيذ العملي هو المحك للتأكد من جدواه وفاعليته ، وإن كان أغلب الظن أنه سيتم الالتزام به ، لأن كل الأطراف تعبت من الحرب على مدار خمس سنوات ، بمن فيهم الروس الذين أدركوا أنهم ينفخون الروح في نظام متهالك وغير قادر على حماية نفسه ، وسارعوا بالإعلان عن أنهم سوف يسحبون بعض قواتهم من هناك تدريجيا ، كما أن الضمانات هذه المرة هي من قوى دولية وإقليمية تملك القدرة على فرض إرادتها على الأطراف الفاعلة في سوريا على الأرض .