الأهرام
د/ شوقى علام
العلامة الدكتور رأفت عثمان فقيهًا ومجددًا
حياة العلماء حياة خالدة بما تركوه من علوم مفيدة وتراث نافع ومسيرة طيبة تربط الخلق بخالقهم سبحانه وتعالى حتى يكونوا على بصيرة من أمر دينهم ودنياهم
، وثواب ذلك متجدد غير منقطع أبدًا، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الشريف:”إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

ومن أبرز العلماء الأعلام الذي خلَّفوا تراثًا خصيبًا في الفقه والفتوى والتشريع الإسلامي والسياسة الشرعية في العصر الحاضر رجل جمع بين التبحر في علم الفقه والإلمام الكاشف للواقع وقضاياه، ذلكم الفقيه المتمكن والمحاضر المقنع عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف الدكتور محمد رأفت عثمان رحمه الله تعالى الذي افتقدناه يوم السبت الماضي 24 ديسمبر 2016م عن عمر يناهز 81 عامًا.

نعم إن شيخنا رحمه الله يُعدُّ نموذجًا فريدًا في العلماء وطرازًا خاصًّا من الفقهاء، فلم تعرفه الجماعة العلمية - شيوخًا وطلابًا - إلا راغبًا في الجد والاجتهاد مع سعة النظر وعمق الفكر وشمول الاطلاع ونصوع الحجة، كما كان ذا ملكة راسخة، لا يدَّخر وسعًا في المقارنة بين الأقوال والموازنة بين الأدلة مع اعتبار فقه المآلات ومراعاة المقاصد الشرعيَّة.

ولا ريب فهذا شأن الكبار من الأئمة الأعلام، ومن ثَمَّ كان جديرًا بثقة الجماعة العلمية؛ حيث تدرج في المناصب العلمية والإدارية حتى وصل إلى أعلاها رتبة وأقومها درجة. فهو أستاذ أريب في المحاضر العلمية، وعضو فاعل في كثير من الهيئات والمجامع العلمية، ومشارك قوي في المؤتمرات والندوات، ومناقش بصير ومشرف ناصح على البحوث الأكاديمية وغيرها، وكاتب أديب في الصحف والمجلات، ومتحدث فصيح مقنع في البرامج الإذاعية والحلقات التلفزيونية، وقد رشحته جامعة الأزهر الشريف لجائزة الدولة التقديرية في عام 1995م ثم في عام 1997م.

وقد شارك شيخنا في قضية تجديد الخطاب الديني والإصلاح التشريعي مشاركة جادة مستنيرة، فألف كتبًا خاصة وأبحاثا مستقلة تختص ببحث ودراسة قضايا الأمة ومستجداتها.

ومؤلفات شيخنا الكثيرة والمتنوعة إذا انضم بعضها إلى بعض سدت ثغرة عظيمة في نشر الوعي في الأمة بما يحقق استقرارها في المجالات المختلفة. ولأن الأسرة هي نواة المجتمع؛ فقد اهتم شيخنا ببيان الضوابط والأحكام والمقاصد التي تحيط الأسرة بما يحافظ عليها، كتناول عقد الزواج وأركانه وشروط صحته، والحقوق الزوجية المشتركة، وغير ذلك.

كما نلاحظ اهتمامًا مزيدًا بقضايا المرأة كمهر الزوجة وما يتصل به من مسائل الخطبة والزواج، وعمل المرأة، بل تناول قضايا أكثر عمقًا، تساهم في تحقيق الصحة الإنجابية ومعالجة المشكلة السكانية، وأيضًا بيان الأحكام الشرعية لوسائل تنظيم الأسرة.

كذلك بذل شيخنا جهدًا بارزًا في تبصير شرائح المجتمع بأمور دينهم وأحكامه حتى تكون متصلة بالله تعالى، كتوضيح ملاءمة الإسلام لكل العصور، وبيان أهمية المنهج القرآني ودوره في تشكيل المجتمع، والتأكيد على أهمية الاجتهاد ومشروعية تعدد الرأي وحوار الاختلاف في المذاهب وحدوده، بل إنه تعدى ذلك إلى قضايا أكثر حاجة وإلحاحًا، كمسائل الجينوم والهندسة الوارثة والاستنساخ، وسبل الوقاية من الأمراض الجنسية كالإيدز، وتوضيح النواحي الشرعيَّة لممارسات أطباء التكاثر البشري.

وإذا تركت الحديث عن العلم وتكلمت عنه كإنسان؛ فإنه تتجلى فيه جميل الصفات ومكارم الأخلاق، ذو أدب جم وحب عظيم لطلابه ومحبيه، ذو فكر حر محترم لحرية الآخرين غير متعصب لرأيه، تنبع آراؤه وأفكاره من عقل سليم وشخصية مستقيمة، وقد رحل عنا هذا الشيخ الجليل ولا تزال الساحة في حاجة شديدة إلى أمثاله، فجزاه الله تعالى خير ما جزى به عالمًا على علمه وأستاذًا عن طلابه، وأن يرفع ذكره ودرجته في عليين، كما أخبرنا بقوله الكريم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف