الوطن
رامى جلال عامر
المتهم مُدان حتى بعد أن تثبت براءته
يميل الإنسان لتصديق أى شىء لا يتعبه، ونحن فى مجتمع لا يفرّق بين المشتبه به والمتهم والمدان والبرىء، ففى مصر لا معنى لأن يبرئك القضاء أو يدينك، فمجرد اتهامك هو إدانة لدى البعض، فلا أحد يضيّع وقته فى قراءة حيثيات أو أسباب أو أى شىء.

تنص المادة السادسة والتسعون من الدستور المصرى على أن: «المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه». وهو نص استُقى من المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، التى تقول إن: «كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمَّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه».. وكلاهما مشتق عن المبدأ القانونى الأجنبى «Presumption of innoc0ence»، الذى يعنى «افتراض البراءة».. وكل ما سبق منحدر عن القانونى الرومانى الذى وضعه الإمبراطور جستينيان الأول فى القرن السادس الميلادى، الذى جاء فيه أن: «البينة على من ادعى وليس على من أنكر».

الأصل أن الإنسان برىء الذمة، وليس مطلوباً منه تبيان براءته، بل يقع عبء إثبات التهمة على عاتق سلطات التحقيق، ولا يلتزم المتهم بتقديم أى دليل على براءته، ولا يجوز اعتبار ذلك دليلاً على ارتكاب الجُرم (حتى لو التزم الصمت طوال المحاكمة). وحتى الشك يُفسر لصالح المتهم وليس ضده. والمدان لا يدان قانوناً إلا عبر قاضٍ.

بعد واقعة ضبط موظف إدارى بمجلس الدولة بتهمة الرشوة وتحريز ملايين الجنيهات من منزله منذ أيام، نسى الناس أن القاعدة القانونية البسيطة تقول إن المتهم برىء حتى تثبت إدانته (مهما بلغت القصة من وضوح)، فقاموا جميعاً بما يشبه حفلات حرق الساحرات فى الشوارع، عبر حملات تشهير بالمتهم، على مواقع التواصل الاجتماعى، حيث روجوا اسمه وبياناته، ونشروا صوراً له، مرة وهو فى أحد الأفراح (وكأن الفرح عيب فى ذاته)، ومرة وهو يؤدى مناسك الحج أو العمرة (وكأنهم يريدون إضفاء مفارقة درامية على الواقعة).. فجأة تعامل غالبية الناس وكأنهم درسوا ملف القضية وسمعوا أقوال الشهود ومرافعة النيابة والدفاع ثم أصدروا حكمهم.. ويبدو أن عملية التشهير تنطوى أيضاً على جانب نفسى يتمثل فى صعوبات المعيشة التى يحياها الناس وما يتولد عنها من مشاعر سلبية لا تحتاج لجهد كبير لتنفجر.

الحفلة شارك فيها مثقفون وكُتّاب، الكل يُنافق الشعب، بينما المفترض هو مخاطبة العقل.. وبالطبع من المهم الحديث عن الواقعة ودلالاتها ومعانيها، ولكن التشهير بالناس هو أمر يدخل فى نطاق العيب واللاأصول، ويقتحم خصوصية عائلات لا شأن لها بالأمر. اهدأوا ولا تدينوا كى لا تدانوا، ودعوا القانون يقول كلمته حتى لو كنا، بنسبة كبيرة، نعرفها مسبقاً، فمن يقضى هو قانون العقوبات وأحكامه وليس قانون الكيف وأوهامه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف