الوطن
أمانى هولة
سامحنى يا «عمر».. حكايات وطن
اسمح لى يا قارئى العزيز أن أبوح لك بإحدى تلك الحكايات التى على بساطتها قد تغيّر مصيرنا فى الحياة.. وتجعلنا أناساً آخرين غير أولئك الذين عشنا بهم وعاشوا بنا سنين طويلة.. عندما تأتى تجربة ما لتمنحنا حياة أخرى وبعداً آخر للوجود..

لسنوات طويلة ظلت تطاردنى تلك الحكاية حتى استسلمت وأسكنتها مكاناً قصياً بالقلب متوارية خلف أحد نياطه تأبى السكون فأجدها تعلن عن وجودها كلما خارت قواى والتمست لنفسى عذراً للتباطؤ أو بحثت عن واحة مسافر وسط طريق اخترته غير نادمة رغم بعد المنال وطول السفر.

كنت قد انتهيت لتوى من إحدى جولاتى الشرائية الممتعة بأحد شوارع العاصمة الشهيرة عندما لمحت صبياً كبير الجثة رث الملابس ينقض على طفل صغير لا يتعدى الخمس سنوات فنزلت بسرعة من سيارتى لأفصل بين الخصمين غير المتكافئين وسط عدم اكتراث من المارة.. ظل الصغير الباكى متحفزاً للاستمرار فى خوض المعركة غير المتكافئة رغم ما ناله من ألم بدون أى (أمارة) مثل الرجل ضعيف البنيان فى مسرحية محمد صبحى الذى كان يردد (ماتقدرش).. بعد أن احتويت الموقف بدأ «عمر» الصغير يشرح لى وسط دموع ما زالت تتشبث ببراءة مغدور بها أن رفيقه الكبير قد استولى عنوة على (فوطة) تلميع السيارات التى يسترزق عن طريقها.. أعدت له تلك الفوطة المهترئة وسط مبررات متعثرة من فم الصبى الكبير الذى ككل الظالمين كبروا أم صغروا يتقهقرون أمام الحق عندما تدثره القوة..

بدأت أسأل الصغير يذكرنى بابنى اللاهى فى البيت وسط ألعابه الكثيرة وتدليل الجميع.. يقف أمامى بملابس رثة وجسد مرتعد من لسعة برد تعبث بنبرات صوته.. أنت فين أهلك؟ ليقاطع الكبير بانتصار:

- (أصل أمه رقاصة).

فينقض الصغير مرة أخرى على رفيقه ثائراً لرجولته الوليدة.. لأعرف الحكاية أخيراً بين تراشق الصغيرين.. اللذين آخى بينهما غُلب الزمن وجحود الأيام.. فأم الصغير تعمل نادلة بأحد البارات الخفية بشارع جامعة الدول العربية، التى نمر علىها دون أن ندرك ما يخفيه ذلك الباب الصغير البالى.. وبعد (طفشان) أبيه أيقظته يوماً على كيس بلاستيك به ملابسه القليلة وطلبت منه الرحيل فوراً من المنزل لأنها ستتزوج.. وأعطته 50 قرشاً، لا أعرف لماذا؟.. وها هو فى الشارع منذ أسابيع، ومع ذلك يغار على سيرتها ويقاتل من أجلها.

وأصبح يبيت مؤقتاً فى جامع قريب بعد أن سمح لهما خادمه خلسة بذلك، مع التهديد بطردهما حتى لا يتعرض للأذى.. وحتى فى بيت الله يستيقظ الصغير وقد سُرقت منه الـ20 جنيهاً التى استطاع كسبها بعرق جبينه من تلميع السيارات بفوطته الصغيرة القذرة!!

حالة من انعدام توازن ألمت بى للحظات من هول الحكاية وأنا أنظر فى ذهول للصغير المرتعد.. فحاول سائقى المغوار إنهاء الموقف قبل أن يضحك علىّ الصغار مستغلين طيبة قلبى. ويبدو أنه خشى أن يجد رفيقاً يزاحمه فى حجرته الصغيرة.. غير مدرك أننى كنت أفكر فى منحه مساحة أكبر من بيتى ومشاعرى:

- خلاص يا واد منك له غوروا بقى.. يا دكتورة دى أفلام ما تصدقيهمش،

وفتح لى باب السيارة وركبت كما المنومة مغناطيسياً.. جبنت وأخذتنى حسابات تافهة لسخرية المحيطين الذين طالما منحونى منها الكثير فى مواقف أقل وطأة.. تخاذلت عن فعل أفضل شىء منحنى الله فرصة فعله فى الحياة.. ورحلت تاركة نظرة خذلان فى عينين صغيرتين لمع الأمل فيهما لحظة عندما التقت روحانا بوعد لم أعلنه لكنه شعر به.. وانسحبت وعينى معلقة بالصغير وأنا أكاد أسمع كلمة لم يستطع أن يقولها.. لا تتركينى..

بحثت عنه كثيراً بعد ليلة بلا نوم.. وقد قررت أن أتشبث بهدية منحها الله لى وبيت فى الجنة ينتظرنى.. سألت كل المساجد المحيطة.. كل حارسى العقارات.. دون جدوى.. لتتغير حياتى كلها وأنشئ مؤسسة متواضعة من مالى الخاص ولا تقبل تبرعات للتعليم المهنى للأطفال بلا مأوى وسميتها «وطن للخير كبرياء».. لتطغى على كل أولوياتى.. ويبدأ مشوار آخر فى حياتى.. ورحلة للبحث عن كل «عُمر» غدرت به الأيام أو تخلى عنه أبوان يعبثان بقوانين الحياة.. ولن تنتهى إلا برحيلى عن هذا العالم.. ورغم إدراكى أنه ربما لم ولن يجيد القراءة وهو على مشارف الشباب الآن لكننى أكتب له من خلالكم وأطلب منه أن يغفر لى:

- ولتعرف أننى سأظل أبحث عنك طوال حياتى.. التى أدين لك بها، وقد أصبحت ذات قيمة ولو بشرف المحاولة.. فسامحنى يا «عمر».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف