الأهرام
د. هالة مصطفى
الحقبة الروسية
اغتيال السفير الروسى لدى أنقرة, على يد واحد من رجال الأمن النظاميين الأتراك فى مشهد مسرحى تناقلته جميع وسائل الاعلام مصحوبا بعبارات انتقامية للقاتل ضد تدخل روسيا العسكرى فى سوريا خاصة حلب والذى أنهاها بـعبارة «الله أكبر» باللغة العربية, سيظل له تداعياته على مجمل الصراع الدائر فى الشرق الأوسط وتحديدا على دور موسكو الجديد فيه, وقد بات أقرب الى الهيمنة بكل ما تستدعيه من ثمن يُدفع ضريبة للقوة والسيطرة, وقد سبق أن دفعته الولايات المتحدة جراء تدخلاتها العسكرية فى المنطقة, فهل جاء الدور على روسيا؟

عادة ما نعرف كيف تبدأ الحروب, ولكن من الصعب معرفة كيف تنتهى أو تتلاحق فصولها أو تتبدل مساراتها وتحالفاتها أو حتى كيف تفاجئنا بمتغير لم يكن فى الحسبان. ومعركة حلب, كبرى مدن سوريا, تحمل ملامح من كل ذلك. فهى ليست مجرد معركة أو محطة عابرة فى الحرب التى تشهدها جميع الأراضى السورية منذ سنوات, وانما نقطة تحول مفصلية قلبت موازين القوى وحققت نصرا لنظام بشار الأسد ولصالح بقائه واستمراره فى السلطة. ولكن هذا النصر لم يكن ليتحقق لولا التدخل العسكرى الحاسم لروسيا فى ظل قيادة بوتين, الرجل القوى الذى أضحى ــ بلا منازع ــ أهم من أى لاعب دولى أواقليمى فى هذه الأزمة التى هى فى قلب الصراع على المنطقة (قد قام بالفعل بتوسيع قاعدته العسكرية فى ميناء طرطوس السورى بعد معركة حلب) فالغلبة العسكرية تكفل له التحكم فى الحل السياسى والتفاوضى مع كل الأطراف الداخلة فيها, مثلما تُكسبه معركة الوقت أى قبل أن تتسلم الادارة الأمريكية الجديدة مهام عملها رسميا يناير القادم, بعدما استطاع تحييد الدول الغربية عموما والتى يقتصر دورها الآن على الجوانب الانسانية دون دور سياسي ملحوظ .

لم تكتف «روسيا بوتين» بذلك, بل استطاعت الجمع بين الخصمين الاقليميين المتنافسين على سوريا, أى ايران وتركيا, تحت مظلتها, لدرجة أن اغتيال سفيرها لم يؤثر على القمة الوزارية التى ضمت الدول الثلاث وعقدت فى موعدها عقب الحادث مباشرة. لا شك أن التحالف مع طهران, التى سيظل لها الدور الأكبر فى أي مفاوضات قادمة وفى شكل الحل النهائى بحكم مشاركتها المباشرة فى القتال الى جانب نظام بشار من خلال الحرس الثورى وحزب الله اللبنانى والميليشيات الشيعية المسلحة من العراق وأفغانستان وغيرها, يُعد أمرا طبيعيا, الا أن الجديد كان فى جذب تركيا, التى طالما رفعت شعار اسقاط النظام قبل التفاوض, اليهما.

«تركيا أردوغان» التى دخلت معركة تحرير الموصل فى العراق من قبضة ايران الشيعية الداعمة للنظام هناك مُتطلعة أن تصبح زعيمة السنة, لم تستطع دخول المعركة الفاصلة الأخرى فى حلب, بعد الخسارة التى مُنى بها الجيش السورى الحر, الذى تولت تدريباته العسكرية على أراضيها والذى يُعتبر الجناح العسكرى للمعارضة السياسية السورية (الائتلاف الوطنى) فقد فشلت فى اقناع الناتو بدعمها عسكريا فى حلب ولم تكن لتقوى على دخولها منفردة فى مواجهة الجيش الروسى, خاصة أنها - أى تركيا- مازالت تعانى تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة, التى أدت بها الى انتهاج سياسة تطهير واعتقالات واسعة على مستوى جيشها الوطنى وأجهزتها ومؤسساتها الأمنية, وباتت بدلا من أن تعيد أحلامها فى الخلافة العثمانية وكأنها ورثت فقط متاعبها كـ»رجل مريض« ناهيك عن مخاوفها المتنامية من الدعوات الانفصالية للأكراد والذين يسيطرون على الشمال السورى ويحظون بدعم أمريكى لافت بعد مواجهتهم لتنظيم داعش الارهابى.

لهذه الأسباب انضمت أنقرة مرغمة لتحالف موسكو - طهران, واختزلت مطالبها فى سماح روسيا باجلاء المعارضة السورية التى تدعمها الى مدينة أدلب معقل المعارضة الاسلامية المسلحة بما فيها تنظيم فتح الشام المتطرف (جبهة النصرة سابقا) لتخسر بذلك جانبا مهما من مصداقيتها أمام حلفائها الخليجيين الذين راهنوا على دورها فى اسقاط بشار.

اذن حققت روسيا الجانب الأعظم من أهدافها عسكريا وسياسيا, ولكن هل انتهت الحرب ليُصبح النصر الروسى حاسما ونهائيا بحيث تُوصف المرحلة القادمة بـ «الحقبة الروسية»؟

لن يتحقق النصر النهائى ما لم تُستكمل باقى المعارك التى ستنتقل من مدينة الى مدينة ومن منطقة الى أخرى حتى تتحقق السيادة الكاملة على أرض سوريا, وهذه مازالت فرضية نظرية.

ستظل التنظيمات المتطرفة من داعش الى القاعدة وما تفرع عنهما, تقاتل على نفس الأرض وتتلقى تمويلا ودعما من جهات اقليمية أو دولية معلومة أو غير معلومة.

هل ستتقبل أو تهضم القوى السنية نصرا محسوبا لصالح القوى الشيعية بسهولة, باعتبار أن كل صراعات المنطقة أصبحت طائفية بامتياز؟ أم ستُفتح جبهات أخرى لكى يخسر الجميع أو على العكس يربح الجميع؟ وهذه معادلة فى غاية الخطورة والتعقيد.

كيف سيُعيد نظام الأسد شرعيته السياسية ويستعيد هيبة الدولة بعدما أصبح عدد الضحايا والقتلى بالآلاف والمُهجرين قسرا من الشعب السورى بالملايين؟ سؤال سيفرض نفسه على المشهد.

الى ماذا ستُفضى التفاهمات الروسية - الأمريكية بعد انتخاب ترامب ووعده بتكثيف التعاون مع موسكو واعتبارها شريكا أساسيا فى ادارة شئون المنطقة, ولكل منهما (روسيا وأمريكا) حساباته وتحالفاته المعروفة ما يعنى ضرورة قبول كليهما تنازلات متبادلة فى الملفات المفتوحة ستكون سوريا فى مقدمتها, فهل سيتم الابقاء على نظام بشار أم تحدث مفاجأة فى الطريق الى التسوية الشاملة؟

لن يُقابل الدور الروسى بالحفاوة من جميع الأطراف, وهذه بديهية, فالواقع اليوم ليس كمثيله ابان الحرب الباردة التى احتلت روسيا خلالها أفغانستان فى ظل حالة استقطاب أيديولوجى حاد لم يعد قائما الآن, وانما فقط لغة المصالح, ومع الأخيرة ستتأثر بشدة الصورة الذهنية عن روسيا كنصير للضعفاء فى مواجهة «الامبريالية» التى حافظت عليها ـ صدقا أو وهما ـ لعقود, وقد نسمع الفترة المقبلة عن مزيد من الهجمات ضد المصالح الروسية. فالقصة لم تنته بعد!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف