المساء
محمد جبريل
لحظات الكتابة
لعلي أنفق الكثير من الوقت فيما يمكن تسميته الإعداد. أو التهيؤ للكتابة. انشغل بأشياء لا قيمة لها وتافهة. تجربة القلم. مسح ما علي الطاولة أو المكتب. من غبار أو أوساخ. لملمة الأشياء المبعثرة. وبمعني آخر. فإني أرش الماء أمام الدكان. وأنظفه جيداً قبل أن أبدأ في مزاولة نشاطي.
أصعب اللحظات عندما أضع الأوراق البيضاء أمامي. أحاول الكتابة فلا تواتيني الفكرة. بل ولا تواتيني القدرة علي الكتابة. تختلط اللحظات والمعاني والكلمات. فهي لا تتصل. ولا تتسق. لولا شعور يداخلني ـ علي نحو ما ـ بأن العمل الذي أعد لكتابته أفضل من الأعمال التي سبقته.
ربما تواتيني فكرة ما أحاول البدء في كتابتها فلا أوفق. أعاود المحاولة أكثر من مرة فيواجهني الفشل. أزمع أن أنسي الفكرة تماماً. لكنها ـ في لحظة ما ـ تلح في أن تكتب نفسها. فلا أترك القلم والورق حتي أتم مسودتها الأولي! "أصارحك بأني أفكر ـ منذ تعرفت إلي الكتابة ـ في اللحظة التي لا يجد فيها القلم ما يكتبه. وتظل الأوراق بيضاء. أخشي اللحظة التي يخبو فيها الإبداع. تغيب الرؤي والتصورات والأحداث والشخصيات واللغة والأسلوب والتقنية. وكل ما يشكل عملاً إبداعياً". تأتي لحظة الإبداع ـ في لحظة لا أتوقعها ـ كالانبثاق المفاجئ. كالومضة. لعلي أكون منشغلاً بفكرة أو أخري. أو عمل آخر. تماماً. ربما تعاودني الفكرة. تقتحمني وأنا أجالس أصدقاء. أو أخوض حواراً في قضية ما. أسلم نفسي للشرود. للحياة مع الفكرة التي تلح علي ذهني. وإن هززت رأسي في تظاهر بأني أنصت.
لاحظت أن معظم الأفكار تواتيني وأنا في اللحظات بين الصحو والنوم. بل إن قصتي " هل " تخلقت في ذهني قبل أن أصحو من نوم القيلولة. لم أفعل ـ حين جلست إلي مكتبي ـ إلا نقل ما كان قد كتب نفسه في الذاكرة. ربما تنبثق الفكرة في أثناء القراءة. قراءات منوعة لا صلة لها بالفكرة التي تنبثق فجأة. أتناساها. أو أرجئ التفكير فيها. تعاودني. أو أنساها. تفرض إلحاحها في اللحظة نفسها. فأنحي كل ما بيدي. وأبدأ في الكتابة. أواصل الكتابة دون أن ألحظ انقضاء الوقت. أكتب بسرعة شديدة. لا أعني بتحسين الخط. وإنما تشغلني الكتابة ولو بخط أعجز ـ شخصياً ـ عن قراءته. ما أريد كتابته دائماً من عملية التسجيل. من جري القلم علي الورق. وبالطبع. فإن الفكرة ربما تكون قد شغلتني من قبل كثيراً. أتأملها. أقلبها. أحاول استكناه الأحداث والنفسيات والدلالات. ثم أنصرف عن ذلك كله إلي فكرة أخري. أو عمل آخر. لكن الفكرة الأولي ما تلبث أن تعود. انشغل بها ثانية. ثم أنساها. وهكذا. وعموماً. فإني أفضل أن أكتب بدلاً من أن أتكلم. في بالي قول همنجواي: "عندما أتكلم فلن يعدو الأمر مجرد كلام. أما عندما أكتب فإني أعني ما كتبته دوماً".
أحاول ـ مع ذلك ـ ان استدعي ما يسمي بالإلهام. ولا أجلس في انتظاره. أشفق علي ذلك الفنان الذي جلس ـ ساكناً ـ أمام حامل اللوحة. وفي يده الفرشاة ساكنة كذلك. مترقباً أن يهبط عليه الإلهام. معظم شخصياتي مبعثها الخيال. لكنها تتحول ـ في أثناء تخلق العمل ـ إلي شخصيات حقيقية. أتوهم أنها حقيقية!. لا أحب التوقف بين الجمل. الجملة التي تستعصي علي الكتابة. يقفز القلم فوقها. وأتركها لمحاولة استعادة المواقف. وما يجب أن أضعه في موضع النقاط. أو المساحة البيضاء. بين جملة وأخري.
لا أذكر أني مارست لعبة وقت الفراغ. فأنا أحاول أن أفيد من كل لحظة. أكتب أو أقرأ أو أنظم أرشيفي أو أتأمل. ربما انشغلت بشيئين في وقت واحد. إذا أجهدني التعب. أو تعكر مزاجي لأي سبب. انصرفت إلي استخلاص القصاصات التي تهمني من الصحف.
أنا أكتب. لا أكف عن الكتابة مهما تكن الظروف قاهرة. والأحوال معتمة. علي حد تعبير خوسيه ساراماجو. ولعلي أذكر قول كارلوس فوينتس: لن استحق شيئاً إلا إذا عملت بلا هوادة في سبيله بإرادة حديدية وبشكل يومي.
الكسل خطيئة وإذا لم أجلس أمام آلة طباعتي كل يوم في الثامنة صباحاً ليوم عمل مكون من سبع إلي ثماني ساعات فإني ـ بالتأكيد ـ سأذهب إلي جهنم.
الفن ليس لحظات عمل بين ساعات. أو أيام استرخاء إنه يتطلب المداومة والاستمرار يذكرنا يحيي حقي بقول عازف الكمان باجانيني: إذا انقطعت عن التمرن علي العزف ثلاثة أيام متتالية. تبين قصوري للجمهور. فإذا انقطعت يومين تبين للناقد الحساس. أما إذا انقطعت يوماً واحداً. فلن يتبين قصوري إنسان سواي".
أصف ـ في الأجندة اليومية ـ يوماً ما مضي من حياتي بأنه يوم بلا عمل يمثل ـ بالنسبة لي ـ يوماً ضائعاً. جهداً كان يجب أن أبذله. ولم أفعل.
أكره قضاء الوقت في أي شيء عدا التأمل والقراءة والكتابة. إذا ابتعدت ـ لظروف العمل ـ عن القلم والأوراق فإن ما أكتبها ما بدأت في كتابته. يناوشني تتحرك في وجداني شخصياته وأحداثه حين أعود إلي ما كنت أكتبه. تسبقني اللهفة إلي ما فات. وإلي تعميق الملامح والقسمات.
الروائي راهب ـ المعني وليس العمل ـ محب للعزلة. يميل للتأمل. منضبط. يحرص علي النظام. يهمل وقت الفراغ. أو وقت الفسحة. يستنيم إلي الدافع الرومانسي. هذه هي الصفات التي يري النقاد أنها لابد تتوافر في الروائي. لكي ينظم وقته وأوراقه وتأملاته وأفكاره. ويجود كتاباته. ما يهمني هو التركيز علي القراءة والكتابة. لا يشغلني ما قد يحيط بذلك من مظاهر وظواهر. الإجادة ـ وحدها ـ هي الوسيلة والهدف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف