الأهرام
محمد صابرين
مصر و «تهديد وإغواء الكبار» و«حماقات الصغار»؟!
لا أحد يعرف «كتالوج المصريين»، ولا أحد يعرف كيف يدير الرئيس أموره ولا كيف يفكر فى «القضايا المصيرية»، وأحسب أن الرجل يحافظ على أوراقه «بالقرب من صدره»، كما أن رجال الرئيس حريصون على «قول المباح»، والتوقف عن أى أمور أخري.. وبالطبع دائما هناك «دوائر غير مرئية» «وشخصيات عديدة» تسهم فى مدخلات صناعة القرار. إلا أن المدهش هنا هو التوقف وتسجيل ملحوظة بسيطة ولكن موحية: مصر الجديدة تعايشت مع «تهديدات وإغواءات الكبار» وترفعت عن«حماقات الصغار»، والذين تخيلوا أنهم «صادروا القرار المصري» أو تصوروا أن القاهرة يمكن فى لحظة أن تقبل«التبعية» أو أن تكون «بندقية للإيجار».. استيقظوا جميعا على حقيقة موجعة وهى أنهم «أمسكوا السراب»: وهؤلاء جميعا لم يدركوا بعد أن هناك «دولة عميقة» بالفعل ممتدة منذ آلاف السنين، وأن الرئيس السيسى وإن كان «رمز السلطة» وعنوانها إلا أنه جزء من النظام المصرى المعقد، والأقرب إلى «جبل الثلج».. والذى يعمل بكفاءة كبيرة تمكنت من إزاحة رئيسين، والحفاظ على الدولة مستقرة فى وسط محيط من الفوضى والدمار، ولعلنا لا نذيع سرا حين نقول إن «المؤسسة العسكرية» «الوطنية» طوال تاريخها أقسمت أن تحافظ على مصر، وأن ترعى المصالح المشروعة للشعب المصري.

فى تقرير مطول لمجلة«نيويوركر» تقول عن السيسى إنه «سياسى بالفطرة»، ويلقى خطبه بالعامية العربية، وكثيرا ما تبهر المواطن المصرى العادي، بما يشعر منها بتعاطف وصدق وأحسب أن الرجل يحظى بثقة شعبه بدليل استمراره رغم «القرارات الصعبة والجريئة» فى إصلاح الاقتصاد وتنسب المجلة إلى دبلوماسى أوروبى قوله «عندما تتحدث إليه، خلافا لمعظم الجنرالات فإنه يستمع»، وتقول مسئولة أمريكية للمجلة أنه ليس من النوع الذى يلجأ إلى الصوت العالى لفرض رأيه، وأحسب أن السيسى يستمع بقوة لرأى الشعب، وجميع من حوله، ولديه قدرة هائلة على الحوار والصبر ومحاولة الاقناع كما أنه فى نهاية المطاف يفاجئ الجميع بتحقيق ما يريده الناس ولو بعد حين. ومن هنا لم يتورط فى اليمن ولا سوريا ولا ليبيا، وحافظ على الباب مفتوحا مع الجميع، وأعلن المبدأ الأهم الحاكم لفلسفة حكمه «لا تورط فى حروب أهلية، ولا جدوى من استدعاء التدخلات الأجنبية، ولا قواعد عسكرية لأحد، والأهم الجيش المصرى للدفاع عن الوطن».

ـ والنقطة الثانية بشأن كيف تفكر مصر؟ تتعلق باستقرار مصر والمنطقة؟.. ومن هنا جاءت عبارة الرئيس الشهيرة «مسافة السكة»، وهى تتعلق بالدفاع أولا عن الأمن القومى المصري، وفى الوقت نفسه «الدفاع عن الأمن القومى العربى وأمن الخليج» لأن ذلك مرتبط مباشرة بأمن مصر. إلا أن ذلك مرتبط أولا بأن «الخيار العسكري» لابد أن يكون «الخيار الأخير»، وعندما لايكون هناك مفر أو بديل آخر.. والأمر الثاني: أن «الأمن العربى المشترك» والدفاع عن أمن الخليج لابد أن يحكمه عمل مؤسسى وآليات تنتمى للعصر وترتيبات والتزامات متبادلة، وأن يتم عبر مؤسسات اقتصادية وعسكرية وأمنية ،وتنسيق مخابراتي. هذا شيء أقرب إلى «التحالف الدائم» وهنا فإن قناعة مصر «لا حلول عسكرية.. والتدخل الأجنبى مصدر جميع الشرور» ويرتبط بذلك فى المقابل «افهم شعبك وحاوره وصارحه، وشاركه فى صنع مصيره» لأن الأمن الحقيقى هو «رضا الشعب»!.

وهنا نصل إلى حسابات مصر، والتى ربما توضحها رؤية فالى نصر عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة «بجامعة جون هوبكنز»، والذى شغل منصب كبير مستشارى مبعوث الرئيس الأمريكى السابق إلى أفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك بين عامى 2009، و2011، والرجل يرسم بدقة عدة ملامح للمشهد.. فيقول فى كل صراع هناك دوافع للأطراف: فنهاية اللعبة لروسيا هو بقاء الاسد، وفائدة أوروبا من نهاية الصراع فى سوريا هو انهاء أزمة اللاجئين، وفائدة دول المنطقة هو الاستقرار. أما بالنسبة للسعودية وايران فهى كانت حربا بالوكالة، ولكن الآن تغيرت اللعبة لكل من السعوديين والايرانيين. فهى لم تعد مواجهة مع ايران بعد الآن، أنها مواجهة مع روسيا والشيء ذاته بالنسبة لتركيا. وأحسب أن مصر من البداية قرأت المشهد، وأدركت جيدا «الفراغ والفوضي» التى يتم نشرهما من قبل واشنطن منذ اللحظة التى رفضت فيها اسقاط نظام صدام بعد تحرير الكويت، والآن الجميع يدرك، «لعبة الشطرنج» الدائرة فى المنطقة، ويحاول «النجاة بمصالحه الحيوية». وأول هؤلاء تركيا أردوغان التى أنقلب موقفها 360درجة، وفى المقابل لم تتورط مصر، ولم تتبدل مواقفها، إلا أنها حافظت على «الباب المفتوح» على الجميع انطلاقا من موقفها الثابت: لا حل عسكرى بل سياسي، الحفاظ على الدولة السورية ووحدة أراضيها، مصير الأسد فى يد شعبه.

ولعل المسألة المهمة فى حسابات القاهرة هى إدراكها أن «الحسابات الاستراتيجية» تغيرت، وأن الرهان على واشنطن أو موسكو أو أى قوة أخرى هو عملية قاصرة. فالولايات المتحدة منذ فترة طويلة بدأت تعيد حساباتها، ولم تعد تنظر لمنطقة الشرق الاوسط والخليج من منظور مريح يرضى الحلفاء مثلما كانت تفعل من قبل. والاسباب هي: لم يعد الخليج أو السعودية مهمة لأن أمريكا لا تريد النفط فقط أصبحت مكيفة، ولا تنظر إلى الرياض بأنها مهمة وداعمة للاقتصاد الأمريكي، كما أن واشنطن لم تعد تعتبر السعودية مهمة لأنها لا تريدها أن تحتوى ايران مثلما فى السابق، إلى جانب قلق سعودى خليجى من أن ايران أصبحت جاذبة جدا بالنسبة للغرب والأمر الأخطر هو أن واشنطن ترى داعش والإسلام المتشدد على أنهما المشكلة الأكبر، وأنهما يهددان أوروبا ويثيران القلق فى أمريكا. والجديد أن إدارة ترامب توسع الأمر ولا ترى اسطورة «الجماعات الاسلامية المعتدلة» بل ترى أن جماعة الاخوان ارهابية، وتريد مواجهة مع هذه الجماعات كلها، وهنا فإن واشنطن وأوروبا والمعسكر الغربى كله بل وروسيا والصين يتشاركون فى «الرؤية ذاتها»، وفى المقابل يرى ترامب وبقية الحلفاء أن الحل عنوان «القاهرة» ورؤية السيسى الشاملة لمكافحة الارهاب والتطرف.وهنا فأن العرب جميعا بحاجة لتوحيد الرؤية والصفوف لمواجهة تطورات عاصفة، وفى الوقت نفسه لا يزال «ملف ايران» مفتوحا ولا نعرف ان كانت ستفقد جاذبيتها، وتتغلب «نظرة التهديد» لطهران.. هذه مسألة لم تحسم بعد؟!

وأحسب أن هذه بعض الملامح التى بامكانها أن تجيب عن السؤال الصعب »كيف تفكر مصر«؟، وعلى الأرجح أن القاهرة تمد يدها للجميع انطلاقا من قاعدة مهمة «مصر أولا»، كما أن السيسى لا يرغب فى «الدور النشيط» بل «الدور الفاعل» لأن الشعوب تحكم «بالنتائج» فى نهاية المطاف. والآن مصر بحاجة لتقوية الداخل «بالكفاءات» وليس بأى شيء آخر؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف