جمال سلطان
ورطة اتفاقية تيران وصنافير وخطورتها
ما يحدث في قضية جزيرتي تيران وصنافير المتنازع عليهما بين مصر والسعودية هو حالة نموذجية لمدى الاضطراب وعشوائية القرار في إدارة شئون الدولة في مصر ، صغيرها وكبيرها على حد سوا ، وقد تفجرت القضية عندما قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي منفردا وفجأة أن يمنح الجزيرتين للشقيقة السعودية ، ووقع رئيس الوزراء على الاتفاقية ، وهو أمر صادم للغاية بالنسبة للرأي العام المصري ، الذي عاشت أجياله عقودا على أن تلك الجزر مصرية ويدافع عنها جيش مصر وأريقت من أجلها دماء أبناء مصر ، فجأة يقول الرئيس إنها سعودية وأنه قرر إعادتها ، ثم يطالب الجميع علنا بأن لا يتحدث أحد في هذا الموضوع ، كما لو كان قرارا عسكريا ، كان الموقف أكبر من قدرة أي ضمير وطني على استيعابه ، بغض النظر عن أي خلفيات قانونية أو تاريخية ، وقد كانت هناك أكثر من طريق لحل هذا الموضوع ، بدءا من التمهيد بطرح القضية على الرأي العام ، ثم وضعها أمام البرلمان للنقاش المستفيض ، ومنها اختيار التحكيم الدولي لرفع الحرج عن السلطة والابتعاد عن شبهة جرح الكرامة الوطنية ، خاصة وأن تسليم الجزيرتين أتى في سياق مرحلة تاريخية تقوم فيها الشقيقة السعودية بدعم النظام في مصر ومنحه مليارات الدولارات لدعم مشاريع أو لدعم الاحتياطي النقدي حتى لا ينكشف ، فبدت الصورة كما لو كانت هذه مقابل تلك ، وكان جديرا بالقيادة المصرية أن تدير المسألة بوعي سياسي وإدارة سياسية وليس بمجرد قرارات لها طابع عسكري وعلى الجميع الطاعة . المسألة زادت تعقيدا بعد ذلك عندما لجأ محامون ونشطاء إلى مجلس الدولة ليطعنوا على الاتفاقية التي وقعها رئيس مجلس الوزراء ، وكان التطور الأهم هو صدور حكم المحكمة الإدارية ببطلان الاتفاقية وأن هذه الأراضي مصرية ولا يحق لأي جهة مصرية التفريط فيها بنص الدستور ، هنا أصبح رئيس الجمهورية في ورطة حقيقية ، لأنه أمام حكم قضائي صريح ، وكان عندما يخاطبه أحد مسئولي الدول الأخرى في شئون مشكلات أو قضايا منظورة أمام القضاء يعتصم أمامهم بأنها أمام القضاء وأنه لا يستطيع أن يتدخل في أحكام القضاء ، وبالتالي أصبحت الأمور في قضية "اتفاقية تيران وصنافير" أشبه بورطة ، فكان أن نصح البعض الحكومة بأن تلجأ إلى محكمة الأمور المستعجلة للطعن على حكم القضاء الإداري ، وهو أمر غريب جدا ، لأن أحكام القضاء الإداري لا يطعن عليها إلا أمام القضاء الإداري نفسه من خلال المحكمة الإدارية العليا بنص الدستور ، وهو ما فعلته الحكومة بالفعل وطعنت على الحكم ، فلماذا تلجأ إلى "حيلة" القضاء المستعجل ، وقد أصدر القضاء المستعجل حكما جديدا مستأنفا بوقف حكم الإدارية والاستمرار في تنفيذ الاتفاقية ، وهو حكم اعتبره خبراء أنه هو والعدم سواء ، وكانت الحكومة قد أقدمت على إجراء أكثر خطورة قبل يومين ، بأن أحالت الاتفاقية للبرلمان لمناقشتها واعتمادها قبل أسبوعين من موعد الحكم النهائي للإدارية العليا ، وهنا أصبحنا أمام معارك كسر عظم حقيقي بين مؤسسة القضاء وبعضها البعض وسلطة القضاء وسلطة البرلمان والسلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة ورئيس الجمهورية ، أي أن الدولة نفسها في صدام مع بعضها البعض . كيف ينظر البرلمان في ملف صدر فيه حكم قضائي وينتظر حكما قضائيا باتا في شأنه خلال أسبوعين ، وماذا إذا وافق البرلمان على الاتفاقية ثم صدر حكم الإدارية العليا بتأكيد رفضها ، الرأي القانوني الراجح هنا أن البرلمان يتعرض للحل تلقائيا هو والحكومة لإهدارهم أحكام القضاء وإهدار القانون ، وقد يوجد من "الكهنة" من يحرض السلطة التنفيذية على أن "تدوس" وتمضي الأمر وتنفذ الاتفاقية ، وعلى المعترض أن يشرب من البحر ، أيا كان شخصا أو مؤسسة ، وهنا لا تصبح في مصر دولة ولا حتى شبه دولة . توابع هذه الإدارة الفاشلة لقضية حساسة لا تتوقف عند هذه الفوضى المؤسسية فقط ، بل امتدت إلى تفخيخ العلاقة مع المملكة العربية السعودية ، رغم العلاقات التاريخية والمتشعبة بين البلدين والشعبين ، ووجدها البعض فرصة للإساءة إلى السعودية بطريقة غير مسئولة ومهينة لقيمة مصر نفسها ، خاصة وقد شاركت في حملات الإهانة للشقيقة السعودية صحف وفضائيات محسوبة على جهات رفيعة في الدولة ، كما أن ردات الفعل الإعلامية والشعبية في المملكة وحتى بعض ردات الفعل الرسمية كأنها تتساءل : ما الذي يحدث في مصر ؟ من فرط فوضى التصريحات والإجراءات والتطورات . لا أدري كيف ستنتهي فصول تلك القضية الخطيرة ، ولكن المؤكد أن "الدولة" في مصر ستخرج منها ـ إن خرجت ـ أكثر عصبية واضطرابا وطيشا وأقل موثوقية في الداخل والخارج .