الأهرام
يسرى عبد الله
الأمل وأنقاض العالم القديم
فى العام 1996 كلف المعهد الدولى للمسرح، التابع لليونسكو، الكاتب المسرحى السورى الراحل الكبير سعد الله ونوس بكتابة (رسالة يوم المسرح العالمى ) التى ترجمت إلى العديد من لغات بلدان العالم، وقرئت على المسارح المختلفة، وكان سعد الله قد أنهكه المرض، وكان السرطان ينخر فى جسده، لكنه كان يقاوم المرض عبر الكتابة، فكان ينتصر للضعف الإنسانى فى نصوصه المسرحية الأخيرة، وكان يجرب ويجدد ما وسعته التقنية ووسعته المخيلة الإبداعية الضافية، خرج سعدالله ونوس فى لحظة قاسية من عمره الشخصى ومن عمر العالم أيضا، وفى نهاية الرسالة التى كتبها أعلن جملته الخالدة: إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. ماذا يمكن أن يحمله عام جديد يأتى على أنقاض عام آخر تعرضت فيه مصر والعالم لمجموعة من الهزات التى لا تخطئها عين؟ ولأن الحياة لم تكن يوما ابنة للتمني، فإن محاولة الإجابة عن هذا التساؤل تقتضى مزيدا من الوعى بأن الإرادة وحدها القادرة على تلك الإجابة. ولو نظرنا إلى الحالة المصرية فإننا سنجد جملة من المشكلات السياسية والثقافية، فالاستقطاب السياسى لم يزل على أشده قائما، ومحاولات إرباك الدولة المصرية عبر انحسار الظاهرة الإرهابية مع تحولاتها النوعية ولجوئها إلى خيار التفجيرات والأحزمة الناسفة، واستهدافها المدنيين، ولعبها على الوتر الطائفي، مع وجود بيئة حاضنة للتطرف على المسارات الاجتماعية والفكرية، دفعت بشاب فى العقد الثانى من عمره لتفجير نفسه داخل إحدى الكنائس المصرية، معتقدا أنه يتجه بفعلته الإرهابية تلك صوب الجنة!!. فى ظل هذا السياق الراهن والموصول بلحظته القديمة يطل الفقر والبطالة والفساد والظلم الاجتماعي، وتحتل الحوادث اليومية صدارة المشهد فى ظل غياب للرؤية الكلية، وافتقاد لتصور محدد صوب العالم، ويبدو الناس مشغولين أكثر من أوقات مضت بالحاجات الاقتصادية الأساسية، فلم يقف جيلنا على الأقل على أزمات حياتية مثل السكر، حتى لو رآها البعض مفتعلة، وبما يعنى أن انشغال الجماهير بالمعيش يعنى تواريا لأحلام كبرى، ويمثل فى دلالته الأكثر مأسوية تبددا للأمل الذى طالما داعب خيالات المصريين، وعبروا عنه فى ثورتين شعبيتين عارمتين فى السنوات الأخيرة.

يظل الداخل المصرى بحاجة إلى إصلاحات جذرية، تصل بين أمانى المصريين فى العيش والحرية والكرامة، والتأسيس لمظلة اجتماعية تحمى الطبقات الفقيرة والمهمشة من التوحش الرأسمالي، وبما يعنى أن العدالة الاجتماعية يجب أن تكون البوصلة الرئيسية للدولة المصرية فى العام الجديد، خاصة مع تعاظم المخاوف من مطالب صندوق النقد الدولى وشروطه المتزايدة للحصول على قرض الصندوق، وفى هذا الراهن المحتدم، المعبأ بالمشكلات الاقتصادية والتناقضات الاجتماعية الفادحة ليس ثمة أمل سوى فى تعزيز القدرة الذاتية على الفعل، والاعتماد على القوة المصرية الخالصة، بعيدا عن المنح والقروض والمساعدات الخارجية التى يجب ألا تكون متنا، بل يجب أن يصبح المتن ممثلا فى استنفاد كل إمكانات البيئة المحلية المصرية، وتدعيم التصنيع، وتعزيز الإنتاج والتصدير، والوعى باستغلال كافة المساحات الزراعية وتزويدها. إننا لن نعيد اختراع العجلة من جديد، فخريطة التقدم واضحة للغاية، وعلينا فقط أن ندرك أن العوامل الداخلية تظل حاسمة فى مجاوزة واقعنا الصعب. وبدا الحال الثقافى يحيا فى جزيرة منعزلة، منفصلا عن الفعل السياسي، مرتبكا بإزاء الهجمة الإرهابية الشرسة على الأمة المصرية فى العام المنصرم، وأصبح التخلى عن المواجهة الفكرية للتطرف طابعا أساسيا، يعززه غياب المعنى داخل أروقة المؤسسة الثقافية الرسمية، والصيغة الكرنفالية احتفالية الطابع لم تزل مهيمنة، والفشل فى تجديد الخطابين الدينى والثقافى لا يخفى على أحد، وتراجعت القوة الناعمة فى لحظة فارقة من عمر الأمة المصرية، كان على الثقافة فيها أن تمثل قيمة مضافة إلى متن الدولة المصرية من جهة، وخط دفاع حصين ضد الأفكار المتطرفة والتصورات الميتافيزيقية عن العالم من جهة ثانية. وفى ظل تآكل المعنى داخل الثقافة، تعزز غياب المثقف الحقيقي، مع تحول حاد وفاضح فى معنى المثقف ذاته، وصورته التى تتشكل فى الفضاء العام، فمن المثقف العضوى الفاعل فى واقعه، إلى وجود أنماط تتجاوز ضحالتها معنى المثقف التبريرى إلى المثقف المرتزق، إلى متثاقفى اليمين الرجعى المتحالف مع الفساد الثقافي، والذين يشهرون أسلحتهم صباح مساء فى حالة عبثية ومزرية تمر بها الثقافة المصرية وصناعها من الرسميين. ربما تشكل كل هذه الملامح السياسية والثقافية عاملا لغياب التفاؤل تجاه العام الجديد، لكن – فى الحقيقة- ربما يخرج الضوء من أكثر النقاط إظلاما، ولا شك فى أن أمة تحمل تراكما حضاريا حقيقيا قادرة على أن ترى النور فى آخر النفق المظلم، وربما تتعزز تلك القدرة النبيلة على الأمل عبر استحضار قيمة العمل، واستدعاء قيم التقدم، والعمل والتقدم بما يحملانه من قيم سامقة يدفعان صوب الأمل الموضوعى الذى لا ينهض على الأمنيات، ولكن ينهض على الإرادة الخلاقة. وبعد.. حين خرج الكاتب المسرحى الراحل سعد الله ونوس ليعلن أننا محكومون بالأمل، كان لم يزل قابضا على جمر الكتابة والإبداع، كان لم يزل يعمل، كان يملك تلك الإرادة الناجزة على الرغم من القسوة المفرطة للعالم، وربما نحن جميعا فى لحظتنا تلك معنيون أكثر بمصاحبة ذلك الأمل النبيل، مدركون أن طريقه الوحيد لن يمر سوى عبر أودية من العمل والإخلاص والنزاهة والإرادة والشفافية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف