ريهام فؤاد الحداد
عروس الإسكندرية الفيلسوفة
منذ أيام قليلة، طالعتنا الصحف ومواقع الإنترنت بخبر مفاده أن امرأة تعدت سن الشباب بسنوات كثيرة طافت أرجاء الإسكندرية بزى (عروس) أبيض وطرحة بيضاء، حاملة بيدها باقة زهور، وبصحبتها لفيف من الأصدقاء والجيران وأناس آخرون، مشت مرفوعة الرأس، منتصبة الهامة، جاذبة أنظار العامة.
سارت وسارت مع موكبها الاحتفالى، إلى أن وصلت لقاعة الاحتفالات، رحب عمال القاعة بها، فهى ذات السيدة التى أتت منذ أيام تحجز وتدفع ثمن الحفل؟! لكن!!! ترى لماذا ترتدى هى الفستان؟! ألم يكن الحجز لأحد أقاربها الشباب.. كيف تكون هى العروس؟!
ويظهر السيد العريس (المتطوع) بتأدية الدور، كى تكتمل مظاهر الاحتفال، تعزف الألحان، وتنشرح العروس، وعلى سنوات ألم ووحدة وعنوسة تدوس، الآن كل شىء على ما يرام، أهذا هو الشعور إذن!! لا بأس، هو أمر لطيف بالفعل، يشير من حولها لها بانتهاء الحفل، قائلين «نكتفى بهذا القدر»، لكنها تستمهلهم قليلاً: «لم ينتهِ بعد!! استمروا بالاحتفال رجاءً، هى لحظات انتظرتها عمراً بأكمله، لا تطفئوا الأنوار الملونة، لا تسكتوا صوت الغناء، استمروا بإطلاق الزغاريد، نعم هذا ما أردت، تماما هكذا...
الآن يمكننا الانصراف، الآن حققت حلمى، ويمكننى العودة لبيتى بسلام، سعيدة مسرورة، شكراً لكم».
يأتى صباح اليوم التالى، تصحو مبتسمة سعيدة، الكون بات يضحك أخيراً، فهى ليست مضطرة اليوم للنهوض فزعة، كعادتها بالسنوات الماضية، حيث كانت تهرب من الوحدة والوحشة، إلى أحضان الطرقات، تراقب هذا وتلمح تلك!! هى اليوم لديها ما يشغلها، إنها ذكريات ليلة أمس، وعرسها الحلم! صحيح أن شريكها لم يكن سوى ضيف تمثيلى، أدى دوراً طُلب منه وانصرف، إلا أنها بكل الأحوال سعيدة الآن.
ويطرق الباب، ربما كان أحد مدعوى البارحة، يبارك أو يطمئن، تسأل من الطارق؟!
- افتحى، بوليس. (خلف نقيب الشرطة يقف ابن أخيها).
- هل هذه هى عمتك التى ارتدت زى عروس بالأمس؟!
- نعم هى يا فندم!!
- وقّع -إذن- على تعهد بتسليمها لإحدى دور الرعاية النفسية.
تنظر إليهما، وإلى من تجمع عند الباب من الجيران والمارة، لا تفهم شيئاً، وتساق إلى مكان لا تعرفه، وتودع به، يرحل ابن الأخ، فتسأل أين هى، لماذا، لماذا!!! وكيف؟! وإلى متى؟! ماذا اقترفت؟! بماذا أزعجتكم؟
تأتيها الإجابة: «إنه منزلك منذ الآن!!».
وتكمل همهمتها: «بالأمس كان يومى الأسعد، بالأمس كنت عروساً، لماذا أنا هنا اليوم!! أريد بيتى، جيرانى، أريد العودة إلى الحى».
يرحل القريب الوحيد الذى لم تكن تراه إلا على فترات متباعدة، يغلق الباب، تركض صوب النافذة، أصبح العالم الآن يقبع خلف الزجاج، لا تسكّع بعد اليوم بالطرقات ولا حديث مع الباعة، ولا اتفاق على حفلة عرس جديدة تكون هى بطلتها، نعم هكذا حكم وأمر القانون، رآها خطراً على الأمن العام وصحة المواطنين، وكأن الطرقات قد خلت من المجرمين والقتلة والسارقين والمتحرشين، تلك العروس العجوز هى من ستهدد الأمن العام، لعدم اتزانها العقلى!! وكأن كل مجانين بلادنا قد أووا إلى دار رعاية!!
بالله.. ما لكم كيف تحكمون؟!
سيدة تصرفت بهذه الفلسفة البالغة، هى عميقة التفكير وإن بدت غريبة الأطوار، حققت حلماً أرهقها طيلة حياتها، على نفقتها الشخصية، من معاشها الذى توفره لها الدولة، وربما تكون قد اقتطعت من قوتها لتوفر تكاليف يومها العزيز هذا.
عذراً أيها السادة.. أراها امرأة فيلسوفة، وليست مجنونة، لقد تصرفت بنبل، أسعدت نفسها وذاتها، لم تحقد على من تزوجن، لم تقتل أو تسرق انتقاماً من مجتمع عاشت به دون أن تحظى بنصيب النساء الأخريات، من بيت وزوج وأولاد ويوم تلبس فيه الثوب الأبيض.
ذكرتنى تلك السيدة بالآنسة (هافيشام) فى رواية تشارلز ديكنز «الآمال العظيمة»، وكيف أنه فى يوم عرسها هرب حبيبها بعد أن سرق أموالها، فظلت لأكثر من عشرين عاماً مرتدية فستان زفافها، لا تخلعه، ومحتفظة بزينة قصرها، كما كانت يوم الاحتفال، والذى لم يتم، حتى ساعة الحائط أوقفتها على لحظة هروب العريس الغادر. وكيف تحولت «مس هافيشام» إلى سيدة حقود، تبنت طفلة صغيرة لتنشئها على الانتقام من الرجال والسخرية منهم وكسر قلوبهم!!
أمّا آنستنا السكندرية المسنة، فلم تفعل أى نوع من الشرور، بل كظمت حلمها سنوات طوالاً، ثم قررت إطلاقه وإسعاد ذاتها ومن حولها، ممن استجابوا لتنفيذ حلمها.. ألا يستحق الأمر إعادة نظر بشأن تلك السيدة.. عروس الإسكندرية الفيلسوفة؟!!