أبو الفتوح قلقيلة
خمور وسكارى ليلة رقص السنة
كانت الليلة شديدة البرودة.. ولكن سخونة الاحتفالات كانت أيضًا طاغية على أي شعور بالبرد أو بالغلاء أو بالقهر أو بأى شىء آخر يشعر به أغلبية المصريين العاديين، والذين يقضون ليلة رأس السنة في منازلهم كأي يوم عادى في السنة، أو ممن يقضونه كدًا وراء لقمة عيش مريرة في زمن صعب.. هؤلاء هم سكان مصر الأولى الصابرة المكافحة المكبوتة المقهورة الحامدة ربها على أقل القليل إن وجدته، والتي تختلف مطلقًا عن مصر الثانية، الراقصة الصاخبة الماجنة المبذرة والتي لا تكترث بإنفاق آلاف أو حتى ملايين الجنيهات على كأس وطبلة وهزة وسط، كان هناك هؤلاء السادة المحتفلون في الفنادق التي يحيى لياليها الدافئة الصاخبة الهضبة والملك وأمير الغناء وسلطان السفه، أو دلوعة الرقص الشرقى أو أخواتها من وارد أوروبا الشرقية والتي تكفل بهن وأغدق عليهن منتج اللحوم البيضاء والحمراء وجميع ما لذ وطاب للسادة قاطنى مصر الأخرى !
عشرات الصور في كل صحيفة وموقع مصرى خبري تكشف لنا عن كم الصخب والبذخ والإسراف والعبث الذي تم إنفاقه في تلك الليلة على الراقصات وأشباه المطربين وحتى بعض عواجيز الغناء في مصر، تتأمل الحاضرين وتتعجب من كم الأموال التي أنفقوها على تذاكر بلغت إحداها سبعة آلاف جنيه بالتمام والكمال من أجل الوجود في الحضرة المباركة والبهية لأحد مطربى مصر العظام والذين لم يفكر أحدهم يومًا في القيام بعمل اجتماعى خدمى لفقراء بلده، ولم يتجاسر أحدهم ويلبى دعوة رئيس الجمهورية بالتبرع لأحد المشروعات الخيرية.. فقط هم يتبرعون بالغناء والغثاء والصخب ثم يتبجحون ويطالبون الفقراء بالتبرع ولو بجنيه في إعلانات سخيفة قميئة هزلية.. ولكن عندما يمرض أحدهم تسارع الدولة بعلاجه على نفقتها داخل وخارج البلاد بينما فقراء مصر المرضى يموتون فقرًا وكمدًا ومهانة على أبواب المستشفيات الحكومية!
إذا كانت تلك الطبقة المرفهة والمدللة من جانب الحكومة والمغتربة عن واقع شعب بأكمله تنفق كل تلك الأموال في الهلس والمرح والصخب واللهو المقنن أو حتى الممنوع والمحرم، فلماذا تسكت عنها دولة تدعى التقشف! أين الضرائب التصاعدية على تلك الفئات التي تنفق بغير حساب لأنها بالطبع تتكسب وتتربح من وطن منهوب بغير مسائلة ولا عقاب! أين نصيبهم من تحمل الأعباء التي اكتوى بها فقراء مصر دون غيرهم من السادة المنتفخين العظام ! أين نصيبهم من بلاء الغلاء والكواء الذي لم يوقظهم من سكرهم المادى والمعنوى الغارقين فيه!
بالقطع هناك خلل واضح في سياسات الحكومة التي تلقى بكل كارثة اقتصادية على كأهل الضعفاء والفقراء والمعوذين ثم تتشدق بشعارات الوطنية وضرورة تحمل المواطنين لفاتورة الإصلاح والوقوف بجوار بلدهم! يحدث هذا بينما لم نسمع يومًا عن زيادة الضرائب أو الجمارك على الخمور والمشروبات الروحية، لم نر زيادة ضريبية أو فرض رسوم على الملاهى الليلية وتخصيص عائدها للمستشفيات الحكومية أو التأمين الصحي مثلا !
إن كان هناك تقشف بحق فيجب أن يتساوى فيه الجميع ويجب على الدولة أن تنحاز للأغلبية الكاسحة من الفقراء وتخفيف آثار قراراتها الاقتصادية الكارثية عليهما، يجب أن تأخذ الحكومة، بصريح العبارة، من الأغنياء والمرفهين وتعطى الفقراء والضعفاء كما تفعل كل حكومات العالم المتقدم منه والمتخلف، فقط ما تم إنفاقه وضياعه على كؤوس الخمر وأجساد الراقصات وغثاء بعض مطربى الكباريهات والفنادق وحتى علب الليل كان كافيًا لتوفير سلع ضرورية وأدوية حياتية لذوى الأمراض المزمنة في مصر، وكان حقًا على حكومة تدعو كل يوم مواطنيها الضعفاء للتحمل بل التبرع لها، أن تقوم بواجبها في الجباية التي اعتادت عليها ولكن هذه المرة تصحح البوصلة وتضبطها تجاه هؤلاء الأثرياء السكارى والمحتفلين وشاربى الوهم في بلد التناقضات والعجائب والهم الذي يسكر دون كأس خمر واحدة.