المصريون
جمال سلطان
البكاء على رحيل إبراهيم عيسى !
شغلت واقعة إقالة أو طرد أو إبعاد ، أو سمها ما شئت ، إبراهيم عيسى من قناة القاهرة والناس مساحة ليست قليلة من الجدل الإعلامي خلال الأيام الماضية ، وقد لاحظت تعاطفا واضحا من الإعلاميين الذين كانوا محسوبين على نظام مبارك معه ، واعتبروا أن إقالته من "وظيفته" تحاصر حرية التعبير ، رغم أن المسألة وظيفية بحتة ، ومسألة حرية التعبير فيها هامش صغير ، فلا أحد منع إبراهيم عيسى من الظهور الإعلامي أساسا ، مثل مئات من السياسيين والنشطاء وحتى الإعلاميين الذين جرى "حظر" ظهورهم تماما في أي قناة تلفزيونية مصرية ، رسمية أو خاصة ، ولم يبك عليهم أحد ، أما في حالة إبراهيم ، فلم يحظره أحد ، بل كان مدللا من السلطة ويسترزق من هنا وهناك بسهولة ورضا ، وكل ما هنالك أن رجل أعمال استأجره لتقديم برنامج بمقابل مالي سخي ، ثم وجد رجل الأعمال أن طريقة أداء ابراهيم تضر بمشروعاته وتضعه في مشاكل مع أكثر من جهة رسمية ، منها البرلمان ، فقرر إنهاء علاقته الوظيفية معه ، وأعطاه مستحقاته المالية كاملة ، وزيادة ، وتركه يمضي لحال سبيله ، ورجل الأعمال هذا كان شريكا أساسيا في حملة الدعاية لترشيح السيسي لرئاسة الجمهورية كما كان عيسى نفسه من الداعمين والمروجين الأساسيين في الحملة ، أي أن الاثنين من حلف واحد ، وجبهة واحدة ، وكار واحد . في اعتقادي أن قلق النخبة الإعلامية الموالية في مسألة إبراهيم عيسى لا يتصل بحرية الرأي والتعبير من أي وجه ، بقدر ما يتصل بأكل العيش أو الحفاظ على فرصة عمل سخية تضخ عدة ملايين من الجنيهات سنويا في رصيد الإعلامي المحظوظ مع دعم شبكة نفوذه المعنوي وعلاقاته العامة مع رجال أعمال ووزراء وجهات نافذة في الدولة تملك القرار ، وكل هذا يتبخر بمجرد أن يتم إبعاده من وظيفته ، ولم يعرف الرأي العام لأي من هؤلاء الإعلاميين المتباكين على إبعاد ابراهيم عيسى من "وظيفته" أي جهد أو نضال من أجل حرية التعبير أو حرية الرأي ، بل كان معظمهم حربا عليها وشاركوا في قمع الحريات وتهميش الحق في التعبير ، رضوا بذلك ، وشاركوا في ذلك ، وقبضوا ثمن ذلك ، وأذكر أن أحد هؤلاء الذين بكوا على الهواء حزنا على ابراهيم وحرية الرأي وهو في برنامجه التليفزيوني على الهواء مباشرة ـ قبل عدة أشهر ـ لم يجد حرجا أن يحرض وزير الداخلية على غلق صحيفة المصريون وقال للوزير على الملأ : اغلقها وسندافع عنك ؟! . في حالة إبراهيم ، فإنه لو كان الأمر متعلقا بالحق في التعبير وأن لإبراهيم دورا (رساليا) في دعم الحريات والنضال من أجل الديمقراطية ، فبإمكان هؤلاء "المناضلين" أن يستضيف كل منهم في برنامجه إبراهيم مرة واحدة فقط في الأسبوع ، لكي يتكلم ويواجه الرأي العام و"يناضل" من منابرهم ، ولو فعلوا فسيكون "المناضل" حاضرا بشكل يومي أمام الشاشة وأمام الرأي العام ، ولكنهم لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ، لأنهم يعرفون ـ كما نعرف ـ أن المسألة متعلقة بالخوف على "أكل العيش" وعلى "المصالح" الواسعة والسخية التي يحققونها بالتزامهم بالدور الذي تم رسمه لهم مسبقا وليس لكفاءة أو تميز لهم عن غيرهم ، فالخوف هو على "الوظيفة السخية" أن تضيع منهم كما ضاعت من ابراهيم تمنعهم من تجاوز الخط والحد ، إضافة إلى الخوف من إزعاج "الأخ الكبير" الذي سمح لهم هم أنفسهم ـ دون غيرهم ـ أن يكونوا ، أو أن يواصلوا أو أن يعملوا مع الراعي الإماراتي أو المحلي ، ولو غضب "الأخ الكبير" فلن يتمكن أحدهم حتى من أن يمر بجوار سور مدينة الانتاج الإعلامي . ابراهيم عيسى إعلامي موهوب في تقدير الخريطة السياسية وتحديد موقعه منها وهدفه فيها ، مهما كانت التحولات والقوى الفاعلة فيها يبقى "تموضعه" ثابتا في المكان الذي يحقق هدفه الثابت ، وقد حقق ما أراد ، حرص دائما على أن لا يكون على يسار السلطة معارضا ولا على يمينها مؤيدا بنفاق صريح ، اختار دائما المنطقة الرمادية الوسط ، فهو المعارض الموثوق للسلطة لدى مؤيديها والمؤيد الذكي للسلطة في صفوف المعارضة ، لعب مع الإخوان ـ أواخر عصر مبارك ـ لدعم صحيفته الناشئة بسخاء كبير وقتها مقابل نشر مقالات المرشد وقيادات الجماعة وتمرير أخبارها في مساحة شبه مستأجرة ، ولعب مع أجنحة في نظام مبارك ضد أجنحة وحصل على رخصة وقت أن استحال على كثيرين أن يحصلوا على مثلها وعندما حكم القضاء بسجنه تدخل الجناح الراعي لحمايته وأقنع مبارك بالعفو عنه ، وهاجم ساويرس ثم صالحه وحصل بعدها على برنامج وعدة ملايين في قناته ، وغنى لنشطاء يناير وحصل على شراكة "قناة التحرير" عندما كان موج الثورة عاليا ثم تخلص منها بربح وافر بعد أن بدأت الريح تختلف ، وغازل البرادعي عندما كان يناضل ضد المجلس العسكري في الوقت نفسه الذي كان فيه يوثق علاقاته مع المخابرات وله فيها اجتماع أسبوعي منتظم لا يعرفه أحد ، وفي أعقاب 30 يونيه ، وفي الوقت الذي كانت تتم فيه عملية "تطهير" الإعلام من أي شخصية لها صلة أو شبهة ولاء بثورة يناير ، كان "الأخ الكبير" يوسع له ويمنحه برنامجا تليفزيونيا في قناة أحد "الأبناء البررة" ، قضى فيها وطره ، حتى كان ما كان . هامش: حين سكت أهل الحق عن الباطل توهم أهل الباطل أنهم على حق (علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه)
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف