د/ شوقى علام
الفكر المتطرف.. المنطلقات والأسباب خلل الفهم فى القرآن الكريم (2)
هناك عدد من الآيات القرآنية الكريمة يتناولها أهل الإرهاب والإرجاف بالتحريف عن سياقاتها وتأويلها على غير معانيها حتى يخلص لهم تبرير معتقداتهم الفاسدة وأعمالهم الإجرامية وسلوكياتهم المنحرفة عن الإسلام وأهله.
إنهم يختزلون نصوص الوحى الشريفة ومقاصد الإسلام السامية فى تبرير الخروج على المسلمين وأئمتهم وإعمال آلة القتل والتشريد فى الآمنين وقطع رقابهم وهتك أعراضهم ونهب أموالهم زعمًا تحت مسمى «الجهاد»، وهم بأفعالهم هذه يؤذون المسلمين وبلادهم أضعافا مضاعفة، فهم لم يدفعوا بما ادعوه من جهاد عن المسلمين عدوًّا، بل جرُّوا عداوة الأمم على المسلمين واستعْدَوْهم عليهم، وزادت الأمة بما يفعلونه ضعفًا. وهؤلاء فى الحقيقة يتلاعبون بالدين وبالشريعة وقواعدها المستقرة، ويعتمدون على المغالطات الفقهية والتلبيس على الناس، مع الجهل الكامل بأصول الاستدلال والترجيح بين الأدلة الشرعية، وإتباع الهوى فيفهم الشريعة تقييدًا وإطلاقا خلافًا لِمَا جرى عليه علماء الإسلام عبر التاريخ، حيث يرشدنا إلى ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقوله: «إنما هذا القرآن كلام الله، فضعوه على مواضعه، ولا تتبعوا فيه أهواءكم».
حقًّا إن هؤلاء متبعون لأهوائهم وأفكارهم السياسية الفاسدة التى لا يصح نسبتها إلى الإسلام والمسلمين، لأن مفهوم الجهاد بريء مما يرتكب هؤلاء من أفعال منكرة وفساد عريض، وهو ادِّعاءٌ مخالفٌ للحق والواقع، فإذا نظرنا إلى كلمة »الجهاد«واستعمالاتها فى النصوص الشرعيَّة وجدنا أن لها مدلولها الواسع جدًّا؛حيث ورد استعمالها فى مجاهدة الإنسان لهواه وشهوات نفسه وشكر نعم الله والصبر على بلائه، ومنه قوله تعالي: «والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهدِيَنَّهم سُبُلَنا وإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ»(العنكبوت: 69)، وقوله جل جلاله:«فلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدهم بِه جِهادًا كَبِيرًا»(الفرقان: 52)، أي:جاهدهم بالقرآن كما قال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.
وقد عدَّ النبى صلى الله عليه وسلم المحافظة على الواجبات والفرائض أفضل الجهاد، ففى الحج قال صلى الله عليه وسلم:«أفضل الجهاد حج مبرور»، وفى الصلاة قال صلى الله عليه وسلم لأم أنس الأنصارية حين سألته أن يعلمها عملا صالحًا: «أقيمى الصلاة، فإنها أفضل الجهاد،واهجرى المعاصي، فإنها أفضل الهجرة».
هذا مع كون الجهاد بمفهوم القتال لم يشرع فى الإسلام إلا لرفع العدوان ودفع الطغيان، فالمسلم مأمور شرعًا ألا يعتدى على أحد من الخلق، وفى تقرير ذلك المعنى يقول الله تعالي:«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصرِهِم لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَنَ يقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَولَا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»[الحج: 39، 40]، فهذه الآية صريحة فى القتال لأجل دفع الظلم ولأجل أن لا تهدم دور العبادة التى أقامها أتباع كل دين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالي:«وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»[البقرة: 193]. ومع ذلك فتشريع القتال مضبوط بضوابط صارمة تقتضى حصره فى المتهيئين للقتال من العدو فقط، وفى ذلك يقول الله تعالي: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلَا تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعتَدِينَ وَاقتُلُوهُم حَيثُ ثَقِفتُمُوهُم وَأَخرِجُوهُم مِن حَيثُ أَخرَجُوكُم وَالفِتنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُم عِندَ المَسجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُم فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُم فَاقتُلُوهُم كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»[البقرة: 190- 192]. وبهذا البيان من واقع القرآن الكريم يظهر بوجه قاطع أن حياة المسلم كلها جهادٌ: فى عبادته لله تعالي، وعمارته للأرض، وتهذيبه للنفس وتزكيتها، وأن القتال المشروع هو الذى يكون لحماية البلاد والعباد ورد العدوان ودفع المحتلين، وليس ذلك الإرهاب الذى يستعمل فيه السلاح فى غير موضعه، أو يقاتل فى غير عدو فيقتل الآمنين عدوانا وظلما، فضلا عن ادعائهم لأنفسهم حق تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم!