يقول تاريخنا القريب.. حين نهضنا مع ثورة ١٩١٩ استطعنا وفي المقدمة منا رجل الاقتصاد العظيم (طلعت حرب).. هل نذكره؟ هل نذكر أنه لم يكن رجل اقتصاد وحسب.. بل استطاع أن يكون مصر.. وأن يستدعي في المصريين كل قيمهم وتاريخهم.. حين ربط في مشروعه الشامل بين الاقتصاد والفن والثقافة والضمير الوطني والإنساني.. وسطر حقيقة غابت عنا منذ عقود فأضاعت ما أضاعت.. وهي أن ما نسميه الآن بالقوة الناعمة ـ التعليم والعلم والفنون والثقافة.. والصحافة وقتها وما نسميه الإعلام بكل دروبه الآن ـ هذه القوة الناعمة التي سدنا بها المنطقة وساهمت في أن نكون في موقع الريادة طوعا وطبعا لا غصبا.. هذه القوة التي لم تكن مصدراً للتنوير في المنطقة كلها فحسب بل كانت أيضا مصدرا مهما من الوزن الثقيل للدخل القومي بعد القطن وإلا أظنه ما كان يقدم بقوة علي احتضان فن السينما ويسارع ببناء ستوديو مصر القائم حتي الآن.. وإلا ما أقدم بجسارة علي بناء مسرح الأزبكية القائم حتي الآن.. ففتح أفقا واسعا للحركة المسرحية وقتها فانتعشت وحققت رواجا في الداخل لها ولمجالات أخري صارت معا من مقومات عصر مزدهر حي.. ناهيك عن بنك مصر ودوره.. فهل تذكرون تمثال »نهضة مصر».. من صنعه؟ وكيف أسهم بنك مصر مع كل المصريين في الاكتتاب لتوفير ما يحتاجه المثال الكبير »مختار» لاستكماله؟ ومن زاره خلال ذلك؟ وكيف سطر هذا الإبداع أن الفنان المصري القديم مازال بداخلنا.. وأن هذا التمثال صار ضمن أثارنا الخالدة.. أي أننا مازلنا أحياء نرفع منارات للعالم كما رفعنا مولوداً للبشرية يسمي الضمير! وكل هذا وغيره كان له مردوده علي الحركة الوطنية التي امتدت حتي حررنا مصر.. وكان له مردوده علي تحرير الاقتصاد المصري من أي سيطرة للأجانب.. كان له مردوده الاقتصادي ونهوضنا الاقتصادي بطلعت حرب وغيره من المصريين.
ولن أعود لذكر الدكتور ثروت عكاشة والإبداع في التجربة الناصرية وكيف كانت هذه القوة الناعمة داعمة للبناء.. فسيقول البعض فن موجه.. سك.. ماشي.. سأكتفي مؤقتا بما سلف من ذكر لطلعت حرب حين تسلح بوعي سياسي صحيح تحكمه رؤية اقتصادية متكاملة حين ارتبطت وتمثلت ما تملكه مصر والمصريون من طاقات في كل مجال بما فيها مجال الفنون والثقافة ـ لاشك أن الظروف وملابسات العصر اختلفت.. لكن الجوهر ثابت والمقارنة ليست لصالحنا منذ عقود. وآخر المؤشرات ـ حتي الليلة الماضية ـ تعبيرا عما وصل إليه الفن والإعلام في برنامج بقناة شهيرة حين رفعت إحدي مقدمات البرنامج ـ ويطلق عليها فنانة أيضا ـ رفعت قدمها في وجه المشاهدين بتحد وقح وهي تصيح بما معناه (اللي عاجبه ح نحتفل ونهيص ونعمل ما بدا لنا..) وما معناه أيضا وطظ في الجميع.. ومن هم الجميع؟! شعب يكابد ويعاني! ولعلك شاهدت ما يجري من بعض الفن والفنانين وبعض من الإعلاميين احتفالا برأس السنة ـ ولا ضير من الاحتفال به ـ ولكن المؤلم في أن الحال قد وصل إلي هذا الحال؟!.. البعض قد يري فيما نقول مبالغة.. وأقول بل إن ما يحدث وللإعلام فيه دور مشهود هو العنوان الصحيح.. لواقع غير إبداعي قبيح.. وانظر لحجة من لا حجة عنده صادقة.. البعض يري ان المعاناة والكبد مبرر كاف لعدم الاهتمام بأمر الإبداع ويردد.. فلنتركه لشأنه علي أساس أن هذا الإبداع لا يقدم شيئا نافعا لمواجهة أزماتنا مع الواقع الاقتصادي المأزوم ـ فلم اهتم بما هو صحيح أو خاطئ فيه طالما لا يفيد بشيء مما نحن فيه؟ وهذه مغالطة أولا لأن هذا الإبداع ليس هو الإبداع الذي كان.. والذي كان له بالغ التأثير في الدخل القومي في الداخل والخارج بخلاف ما له من تأثيرات أخري تحفظ لنا موقع الريادة طوعا وطبعا لا قصراً.. في كل المجالات. والبعض يرحب بالإبداع باعتباره مواسيا ويلهي الناس عما هم فيه من مشقة وتلك نظرة من يريد أن يتهرب من أمانة يحملها.. أو نظرة من لا يري في الابداع إلا اللهو والتسلية.. وما هو في جوهره بلهو وتسلية أو تبجح زائد كما نشاهد.. بل هو إلي جانب متعته البناءة للوجدان.. بناء للوعي سعيا للارتقاء والتغيير.
فكيف لنا بذلك ونحن نري العجب.. إعلاء من قيمة الفن العقيم والصفيق.. الاهتمام بالفنانين لا بقيمة ما يقدمونه.. والإعلاء في الثقافة بالسطحية والصخب الأجوف وتهميش أي إبداع ثقافي تنويري جاد.. متعته راقية باقية ومحتواه إنساني بناء..
والحديث يطول وله بقية