الأهرام
اسامة الازهرى
الحضارة فريضة إسلامية (7)
لا يمكن أن تولد الحضارة إلا من رحم مدارس التعليم التي تجتمع لها معايير جودة التعليم في أعلى صورها، من اختيار مناهج التعليم ودوائر العلوم، ومن استقطاب الأساتذة والخبراء ذوي الكفاءة الرفيعة من أي مكان في العالم مهما تكن تكلفة أجوره وتنقلاته ومتطلباته، ومن تهيئة الوسيط الملائم والمساعد لصناعة التعليم وفتح آفاق الطلاب وتفرغهم نفسيا وعقليا للعلم والفكر، دون تشويش الخاطر بهموم المأكل والمشرب، أو بضيق مكان التعليم الذي يكون كئيبا خانقا للعقل والروح، إلى غير ذلك من المدخلات التي لابد من حشدها لصناعة عملية تعليمية صانعة للإبداع.

ولا يمكن أن يتم هذا كله إلا بتمويل ضخم، واهتمام مجتمعي رفيع يحول قضية التعليم إلى قضية كبرى نبذل لها أعلى درجات الاهتمام والإنفاق، ولأن العقل المسلم قد وعى عن القرآن الكريم شدة إلحاحه وإرشاده بالعلم والتعليم والتفكير والنظر والتأمل والتدبر، وشغفه بالعمران، وسعيه الحثيث لتوليد الحضارة وتكريم الحياة، فقد اعتنى المسلمون عناية بالغة بتوفير الأموال وحبس الأوقاف الواسعة على مدارس العلم.

فكان من نتيجة ذلك أن وجدت عندنا مدارس عجيبة، على رأسها المدرسة المستنصرية ، التي كانت علامةً فارقةً في تاريخ المدارس العلمية في الإسلام، فقد أسسها الخليفة المستنصر بالله، فعمرها واعتنى بها، وتخير موقعها، وحبَس لها الأوقاف العظيمة، والميزانية الوافية، وعدَّد فيها الفنون والعلوم، وجمع لها الكتب النادرة، وبالغ في الحفاوة بها، حتى قال ابن تغري بردي في: (مورد اللطافة): (والمستنصر هذا هو باني المدرسة المستنصرية ببغداد، التي لم يُبْنَ في الإسلام مثلها، في كثرة أوقافها، وكثرة ما جعل فيها من الكتب).

وقد أكثر الخليفة المستنصر -رحمه الله تعالى- من أوقافها، واتخذ لها خططا علمية سابقة، لم تُعْهَدْ في مدرسة من مدارس العلم في الإسلام قبله، حتى قال الدكتور ناجي معروف في: (تاريخ علماء المستنصرية): (لعل أعظم جامعة علمية كانت ببغداد في أواخر الدولة العباسية، وفي أثناء حكم المغول، هي: المدرسة المستنصرية، وهي أول جامعة في العالم الإسلامي عنيت بدراسة علوم القرآن، والسنة النبوية، والمذاهب الفقهية، وعلوم العربية، والرياضيات، وقسمة الفرائض والتركات، ومنافع الحيوان، وعلم الطب، وحفظ قوام الصحة، وتقويم الأبدان، في آن واحد، كما أنها أول جامعة إسلامية جمعت فيها الدراسات الفقهية على المذاهب الإسلامية الأربعة: الحنفي، والشافعي، والحنبلي، والمالكي، في بناية واحدة، هي مدرسة الفقه).

كما كان من أسباب عمارتها وازدهارها أن الخليفة المستنصر رحمه الله كان يسبغ عليها رعايته، ويوليها عنايته، حتى لقد أسس لنفسه شرفة يباشر منها الدروس ويستمعها، قال الحافظ الذهبي في: (سير أعلام النبلاء): (وكان للمستنصر منظرة يجلس فيها، يسمع دروس المستنصرية).

وهنا يبرز دور التمويل وتوفير الموارد المالية الضخمة التي تتكفل بمتطلبات ذلك، والمتتبع لإحصاء ما وقف على المدرسة المستنصرية، ومقدار ما كانت تدره تلك الأوقاف يجد أمرا عجبا مذهلا، قال الذهبي في: (تاريخ الإسلام): (قلت رأيت نسخةَ كتابِ وقفها، في خمسة كراريس، والوقف عليها عدة رباع وحوانيت ببغداد، وعدة قرى كبار وصغار، ما قيمته تسعمائة ألف دينار فيما يخال إلي، ولا أعلم وقفا في الدنيا يقارب وقفها أصلا، سوى أوقاف جامع دمشق، وقد يكون وقفها أوسع).

ثم أطال الحافظ الذهبي في ذكر أسماء القرى التي وقفت على تلك المدرسة، ورغم ما ذكره من سعة أوقافها، والمقدار العظيم الذي تدره من الأموال الطائلة، مما هو مسخر لخدمة المدرسة وما يجري فيها من حركة علمية، فإن عدد من كان ينزل بها من العلماء والطلاب لا يجاوز الخمسمائة، حتى قال الذهبي: (فالمرتزقة من أوقاف هذه المدرسة على ما بلغني نحو من خمسمائةٍ نفس، المدرسون فمن دونهم، وبلغني أن تبن الوقف يكفي الجماعة، ويبقى مغل هذه القرى، مع كري الرباع فضلة، فكذا فليكن البر، وإلا فلا).

ولأجل هذه العناصر التي اجتمعتْ لتلك المدرسة العظيمة، فقد صارت حَدَثًا فارقًا في تاريخ العلوم في أمة الإسلام، وتحولت إلى أُنْموذجٍ يحُتذى، بحيث إنها أثَّرتْ بمعمارها، وهيئة خدمتها للعلم، وجمعها للمناهج الدراسية العلمية المتعددة، فصار كل من نهض لعمارة مدرسة في المشرق أو المغرب، فإنه ينسج على منوالها، وقد أثَّرت بهذا في حركة العلم أيما تأثير، قال الدكتور ناجي معروف: (وعُدَّت المستنصرية قدوةً لمؤسسي المدارس من الرجال والنساء، في العراق، ومصر، والشام، والحجاز، حيث شرعوا يبنون مدارسهم على صفتها، من حيث الدراسة على المذاهب الأربعة، وربما بنوها على غرارها أيضا، من حيث هندسة البناء، واحتواؤها على أربعة أواوين، للمدرسين الأربعة، أو على دروس للطب، والتفسير، والحديث، وعلى مخازن ودور للكتب، وعلى بقية المرافق الأخرى)، و(للحديث بقية).

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف