الأهرام
قداسة البابا تواضروس الثانى
تطلعــــوا إلــــى السمــــاء
تحية واجبة
التحية واجبة الى باقة الشهيدات والشهداء من الكنيسة البطرسية الذين اختارهم الله فى أفضل أوقات حياتهم ليكونوا شهوداً صغاراً وكبارا بايمانهم القويم وتروى دماؤهم الذكية الكنيسة فيصير اسمها «كنيسة البطرسية كنيسة الشهداء» ويصيروا شفعاء لنا أمام المسيح وبشهادتهم نعيش ونعمل ونخدم ونشهد، ومصلين من اجل أبنائنا المصابين ليتمم الله شفاءهم، واثقين أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. اذكرونا.

فى بدء الخليقة أَوجد الله الخالق العظيم الانسان صنيعة يديه على هذا الكوكب «الأرض» بعد ان خلق له كل سُبل الحياة من نور وطاقة وشمس ومياه ونباتات وأشجار وزواحف والطيور والحيوانات والثدييات وأخيراً توج الانسان آدم وحواء كملك على مملكة . حقاً لقد كون الله سلسلة من المجرات ووضع نظاماً شمسياً فى إحداها اشتمل على كوكب نسميه الأرض التى صارت مسئوليتنا نحن البشر .ومن الوهلة الأولى فى قراءة الاصحاحات المبكرة من سفر التكوين بالعهد القديم نطالع قصة تاريخ الخلق حيث الخالق العظيم يخلق الانسان على صورته ومثاله ويأمره أن يتسلط على الأرض أى على مخلوقات الأرض ( تكوين 1: 28) ولم يعط البشر سلطاناً كى يتسلط أحدهم على الآخر، ولكن ما التاريخ إلا حكاية سعينا الى التسلط بعضنا على بعض وانحرافنا عن الأدوار التى اسندها الله إلينا . وامتدت الحياة البشرية بطول الأرض وعرضها وسار التاريخ البشرى فى حلقاته وحضاراته ، وعبر الأجيال تكون رصيد القيم الحياتيه والمبادئ الإنسانية والأخلاقية والفضائل التى تضع الانسان فى اسمى الكائنات الحية . ومن هذه الفضائل الإنسانية المحبة والمساعدة والتعاون معاً فى اعمال الزراعة ثم الصناعة وامتدت العلاقات الإنسانية بين الصداقة والزمالة والاخوة والارتباط والزواج،وظهر مصطلح فريق العمل Team work الذى يؤدى الى نجاح المجتمعات والشعوب ، وهو نفس المعنى فى مصطلح «الليتورجيه» الذى نستخدمه فى الكنيسة كثيراً فى التسبحة اليومية وفى ممارسة صلوات القداس والاسرار الكنسية وغيرها ....

وظهرت الفنون والآداب والمذاهب والفلسفات والعلوم وعاش الانسان على الأرض يبحث عن ثرواتها الطبيعية والمعدنية وتكاثر البشر وتكاثرت معهم «روح الذات» وبدأت النزاعات والحروب والصراعات والاهوال والعنف بكل الصور وعلى كل المستويات من الاسرة الصغيرة فى عددها الى الشعوب والدول، وخلال القرن العشرين ظهر مصطلح «الحرب العالمية» الاولى وبعدها بسنوات «الثانية».

ووسط هذه الصور الكئيبة ظهرت معانى جديدة مثل الحرية والشفافية وحقوق البشر وحقوق الأطفال والمساواة وعدم التمييز والديمقراطية وغيرها ....

غير ان البشر مع انشغالاتهم الأرضية العديدة سواء كانت سلماً أو حرباً أو ان كانت ظاهرية ام باطنية ..تناسوا واحدة من أهم معانى الحياة الإنسانية وهى فضيلة «التطلع إلى السماء». والعجيب ان البشر جميعاً يرون السماء ، ولكنهم يختلفون فى موقفهم منها : البعض يلتفت إليها أحياناً.... !! والبعض يلجأ اليها أحياناً....!! والبعض يحتمى بها فى بعض المواقف....!! والبعض ينساها أو يتناساها......!! والبعض يتطلع اليها دائماً .....

ويأتى احتفالنا السنوى بعيد ميلاد السيد المسيح متجسداً على الأرض يُحيى فينا هذه المعانى السامية التى تغيب عن عالم البشر كثيراً...

وجرى العرف التعليمى على ان السماء هى مسكن الله الحالى فى كل مكان وليست فقط مجرد اهتمام الفلكيين ورواد الفضاء او حتى عشاق الفنون .

والسماء مثلما تتراءى للنظر بسعتها ونورها وتناسقها البديع والمحير هى ظاهرة ودائمة ومعبرة أمام الجميع... وفى احداث تاريخ ميلاد السيد المسيح نجد عدداً من شخصيات هذا التاريخ وقد تطلعوا الى السماء كثيراً فالقديسة مريم العذراء تلك الصبية الفقيرة قدمت نقاوتها وارتباطها القوى بالسماء حال ظهر لها الملاك وابلغها بالبشارة السعيدة لم تقاوم او تجادل او تعترض بل تطلعها الى السماء جعلها تقول «هوذا انا امة الرب . ليكن لى كقولك» (لوقا 1: 38) وهكذا كانت الطاعة المشتملة بالاتضاع . وجماعة الرعاة اليهود البسطاء كانوا أمناء فى عملهم حتى اثناء الليل حيث تلقوا بشارة الملاك وهم يتطلعون الى السماء (لوقا 2: 8) فتتحرك قلوبهم قبل اقدامهم الى بيت لحم ليروا الصبى وامه ويوسف النجار (لوقا 2 : 15 ــ 18 ) .

اما المجوس الغرباء القادمون من بلاد الشرق فكان عملهم هو التطلع الى السماء على الدوام بحثاً عن ظواهر فلكية تعنى فى علومهم ان لا سبيل لمعرفة الحقيقة إلا اذا اعلنها رب الحقيقة بذاته فى ظاهرة فلكية فريدة وظهور النجم العجيب،.... والذى تتبعوه عبر مسافات طويلة ليصلوا من الشرق الى بيت لحم ويقدم هداياهم الثمينة ذهباً ولباناً ومراً. (مت 2 : 11)

اما سمعان الشيخ ذلك الكاهن الأمين والذى كان واحدا ممن اشتركوا فى الترجمة السبعينية للعهد القديم من اللغة العبرانية الى اللغة اليونانية... وقد عاش طويلاً حتى انه فى نهاية عمره حمل المسيح الصبى الصغير على يديه وقال رافعاً عينيه للسماء الآن يا سيدى تطلق عبدك بسلام.... (لوقا 2 : 29 ــ 35 ) .

ونموذج خامس ممن تطلعوا الى السماء حنة النبية التى ترملت بعد زواج سبع سنين وبقيت فى الترمل 84 سنة متطلعة الى السماء باصوام وطلبات ليلاً ونهاراً (لو 2 : 36 ــ 38)

هذه نماذج من البشر التى تظهر الانسان كمخلوق الهى سماوى فيه نسمة حياة من الخالق ولذا يحن ويتوق ويشتاق دائماً للسماء .

ويآتى السؤال الأخير: ما قيمة التطلع نحو السماء؟ هل من فوائد يجنيها الانسان؟

إنى اتجاسر وأقول أن إنسانية الانسان لا تتحقق إلا بمقدار تطلعه إلى السماء بقلب صافى ونية خالصة. ومن يعيش فى هذه الفضيلة السامية سوف يجنى الكثير لان السماء هى مصدر البركات. انه أولاً يتطلع نحو الله الخالق العظيم الابدى الذى أوجد الحياة وكل ما فيها... يتطلع نحو مصدر وجوده ومستقر آخرته لكى يستمد منه القوة والقدرة والمعرفة والحكمة والحياة.

ثانياً يتطلع إلى النور- ليس فقط النور المادى فقط كالشمس والنجوم والكواكب ، بل أيضاً النور المعنوى أى الاستنارة القلبية التى تجعل حياة الانسان منيرة وساعية نحو كل البشر بقلب منفتح دون إقصاء لأحد ودون تمييز ، فحياتنا الجميلة بتنوعها وقبول هذا التنوع فى مسيرة كل يوم.

وثالثاً يتطلع نحو السلام أو مجتمع السلام الكامل الخالى من كل عنف أو قلق أو حرب أو أضطراب....... لقد جاء رئيس السلام أى صانع السلام السيد المسيح كما نتعلم من انشودة الملائكة «وعلى الأرض السلام» بمعنى عودة السلام بين الانسان والله ، وعودة المصالحة بين الأرض والسماء.

ورابعاًيجنى الانسان ثمرة الفرح والمسرة الداخلية.فالانسان يبحث عن السعادة فى حياته الأرضية ، بل وتعمل الدول على رفع معدلات الرفاهية فى حياة الشعوب... ولكن هيهات لأن الافراح المادية لا تشبع احداً إلا القليل...!! أما الفرح السماوى الذى يسكبه الله على كل من يتطلع اليه فى سماه فانه فرح مجيد لا يعبر عنه بكل كنوز الأرضونحن نصلى يومياً هذه الكلمات «نشكرك لانك ملأت الكل فرحاً لما اتيت لتعين العالم يا رب المجد لك».

أما خامس البركات التى يجنيها من يتطلع الى السماء فهى صداقة السمائيين والذين سبقونا الى السماء من القديسين والصديقين والابرار هؤلاء الذين يمنحون الشوق واللهفة والحنين الى الحياة السماوية التى عبر عنها القديس بولس الرسول حين قال : لى اشتهاء ان انطلق وأكون مع المسيح ذاك افضل جداً .(رسالة فيلبى 1 : 23)

هذه هى بركات التطلع الى السماء.. انها عالية فيها الله فوق كل فوق ، وهى واسعة باتساع عمل الخير.. وهى صافية من كل شر أوشبه شر، وهى منيرة بالنهار وبالليل فليس فيها ظلام، وهى مريحةومعزية لكل من يلجأ اليها، وهى هادئة تمنح سلاماً بعيداً عن كل صخب ، وهى سامعة لأنين القلوب المنكسرة والتضرعات المرفوعة.

السماء هى موضوع رجائنا حيث نصلى عدة مرات كل يوم فى الصلاة الربانية «كما فى السماء كذلك على الأرض». نصلى من أجل بلادنا المحبوبة مصر ومن أجل قيادتها وشعبها وليحفظ الله الرئيس عبدالفتاح السيسى وكل المسئولين الذين يحملون المسئولية معه وكذلك نصلى من أجل شعب مصر الأمين ووقفة العزاء مع شهداء الكنيسة البطرسية والمصابين فى احداثها .. ونطلب من الله أن يهب سلامه الى كل مناطق الصراع فى عالمنا خاصة فى سوريا والعراق واليمن وليبيا . وكل عام وجميعكم بخير وسلام ،،
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف