الوطن
أحمد شوقى
إعادة النظر فى يناير! (1/2)
ينشغل الكثير من المفكرين والمنظرين بتجديد الحديث عن الموضوعات المهمة التى تعنيهم، ويندرج ذلك تحت ما يُسمى بإعادة التفكير Rethinking، أو إعادة الزيارة أو النظر Revisiting لهذه الموضوعات. وتشمل المراجعة كل أطياف الموضوعات، من سياسية/ اقتصادية/ اجتماعية/ ثقافية، وعلمية تكنولوجية، على مستوياتها المحلية والإقليمية والعالمية أو الكوكبية. وعلى سبيل المثال، الذى أرجو ألا يُعد فرضاً لتجربة شخصية، قمت بهذه المراجعة بالنسبة للعلم الذى أشتغل به (الوراثة)، وقدّمت تعريفاً موسوعياً له، يتعامل معه كمجال فى إطار وحدة المعرفة، دون اختزال هذا التعامل فى اعتباره علماً تقنياً مهماً، وإن كان ذلك بالطبع. ولإيمانى بضرورة أن يكون المرء «مثقفاً عضوياً»، منتمياً إلى قضايا وطنه ومجتمعه، رأيت أن يكون ما حدث فى يناير 2011، الذى تحل ذكراه قريباً، موضوعاً لإعادة زيارته أو النظر فيه، مؤكداً أنها رؤية شخصية متواضعة تقبل كما أكرر دائماً النقد أو النقض. هذه هى طبيعة الأمور بالنسبة إلى القضايا الكبيرة، التى تحتمل وجهات النظر الإيجابية والسلبية حيالها، وتستحق المحاولة الجادة لمعالجتها الموضوعية قدر الإمكان، لصعوبة أو استحالة أن تتخلص المعالجة تماماً من البعد الذاتى لمن يقوم بها.

■ ننطلق من النقطة الأخيرة الخاصة بالذاتية، لو شئتم وصفها بذلك. «الثورة» عندى، كمصرى من أسرة من الطبقة المتوسطة جاوز السبعين من عمره، هى «يوليو»، بألف لام التعريف. وأعبر عن كامل احترامى لكل من يختلف معى فى ذلك كلياً أو جزئياً، بل أتفهم تماماً. البشر يختلفون حول الأنبياء المعصومين، فما بالك بنا نحن غير المعصومين؟ وبالصدق نفسه أرى أن «يوليو»، بما لها وما عليها، قد تغير زمانها، الذى أحببتها فى ظروفه وسياقه. هل يقربنى ذلك من المخالفين، الذين أرجو أن يقتنعوا مثلى بمستقبلنا المشترك؟ ولأن تغيّر الزمان لا يغير المبادئ، فقد بقى من «يوليو» أهدافها النبيلة المتمثلة فى الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى والتنمية، وليس هذا بقليل. بل أعتقد يقيناً أن ينقلنا مباشرة إلى «يناير»، من الحلم الذى حاول أن يتجلى فى «يوتوبيا التحرير» بحقائقها وأوهامها، إلى كابوس «الاختطاف» المفزع، الذى أوقعنا فيه قطاع ملتبس من «النخبة/ النكبة»، إلى «الإفاقة» فى «يونيو»، التى أعادت إلى مصر مصريتها.

■ والآن يجىء أوان الأسئلة الخلافية، التى تُطرح فى معرض إبداء الرأى بالنسبة للشفرات السابقة مع التركيز على لحظة يناير: هل يمكن أن يوصف كل ما جرى فى التحرير باليوتوبيا؟ ومع احترامنا لوصف يناير بـ«الثورة» فى الدستور المعدّل الذى وافقنا عليه، هل يتفق علم السياسة مع هذا الوصف؟ وبعد سنوات من الحدث، ما الزبد الذى ذهب جفاءً؟ وماذا مكث فى الأرض؟ أظنها أسئلة مهمة، وأرى أن من حق كل مصرى أن يجيب عنها دون انفعال أو افتعال، لأنه حدث كبير أثّر، ولا يزال يؤثر، على الجميع. ومع رغبتى الصادقة فى عدم إغضاب أحد، اسمحوا لى أن أقدم إجابتى بصراحة ووضوح.

■ لا أعتقد أن كل ما حدث فى التحرير يمكن أن يندرج تحت وصف اليوتوبيا، وما كان من الممكن أن يكون بذلك. نحن نعيش فى عالم أدرك جيداً نهاية عصر المعجزات واستحالة وهم اليوتوبيات. هذا لا يعيب يناير، لأنه من طبائع الأشياء. ما يعيب حقيقة هو ادعاء «ملائكية» كل من كان هناك، استناداً إلى بعض المظاهر التى خدعت الكثيرين. لقد كتبت منذ البداية، وأرشيف جريدة الأهرام يشهد عن «الوجه المظلم للقمر». كان الوجه المضىء متمثلاً فى جموع نزلت تطالب بحقوقها المشروعة، وشباب يحملون الورود لتقديمها إلى رجال الشرطة فى عيدهم الوطنى، كرسالة حضارية تُنبههم إلى تجاوزات بعضهم، وشعارات لا يختلف حولها أحد (وإن كنت أتساءل أحياناً، هل جاء بعضها من تونس أو عبر تونس؟). أما عن الوجه المظلم، فحدّث ولا حرج: محركون للناس فى اتجاهات خاطئة، وأجندات مغرضة، مستخدمين فى ذلك كل الوسائل، بما فى ذلك وسائل التواصل الاجتماعى، ومحبّذين للعنف واقتحام أقسام الشرطة والسجون وأمن الدولة، وإحراق المبانى التى تملكها الدولة، لا الحزب الوطنى، عناصر خارجية متواطئة مع الداخل، مخابرات عربية وأجنبية ووسائل إعلامها، بعد أن سمحت الأوضاع بالاختراق «المسخرة فى ما جرى» داخل بعض «الخيام الثورية». هذا ما يقوله بعض المنشقين من المحركين، ولا نقوله نحن، ونعده الوجه المظلم لليوتوبيا المتوهمة، ونُكرر دائماً أن المجد للبسطاء لا للعملاء، الذين تدرّبوا على إحداث التغيير فى «مدرسة الفوضى الخلاقة» إياها، أو المتربصين لاختطاف الحلم وتحويله إلى كابوس. هؤلاء البسطاء كانوا جنود الإفاقة بمساندة جيشهم الوطنى، وهم الآن جنود مواجهة معارك ما بعد «يونيو»، بعد أن انكشفت مخططات «الفظيع العربى» عندنا، ونرجو أن يدرك الأشقاء المتحاربون ذلك مثلنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف