الصباح
حلمى النمنم
الحلول القاصرة
فى وقت سابق كانت شرطة المرافق تقوم بحملات على هؤلاء الباعة، سيبقى الباعةالجائلون مشكلة العاصمة، أعدادهم تتزايد، بعضهم يأتون من الأقاليم إلى القاهرة،وبعضهم من القاهرة ذاتها، كثير من الأقاليم والمحافظات، خاصة فى الصعيد، باتت طاردة لأبنائها، قلة فرص العمل، والوضع الاجتماعى يطغى على كل فرد، أما عن القاهرة فهى بحر زاخر يتسع ويستوعب الجميع، والضغوط الاجتماعية أقل، لذا يمكن للقادم إليها أن يمارس أى مهنة، بغض النظر عما إذا كانت جذوره الاجتماعية تضعهافى مكانة متدنية أو حتى فى خانة العيب الاجتماعى.
وكانت هناك معادلة صامتة بين الطرفين، وهى أننا سنترككم تقفون، لكن شريطة عدم التجاوز والإخلال بالمرور، وإذا اقتضى الأمر فتح الطريق لأى سبب فإن الباعة كانوا يختفون مؤقتًا، لكن هذه المعادلة كسرت بعد ثورة 25 يناير، كسرت هيبة الشرطة ومعها المؤسسات الحاكمة، وهكذا اتسع نطاق هؤلاء الباعة واحتلوا بعض الميادين فعلً وسدوا بعض الشوارع ولم يعد ممكنًا للشرطة القيام بما كان سابقًا، لذا يتم الآن حملات لإخلاء الميادين تشترك فيها القوات المسلحة أحيانًا.
ومع اتساع نطاق ظاهرة الباعة الجائلين باتت العاصمة تضيق بهم، خاصة أن معظم الميادين العامة تم شغلها بهؤلاء الباعة، ولذا تتدخل شرطة المرافق لتنقلهم من موقع إلى آخر، كما حدث هذا الأسبوع مع الباعة الجائلين فى ميدان رمسيس، حيث تم نقلهم إلى ميدان أحمد حلمى، ولنتذكر جيدًا أن هؤلاء الباعة كانوا أصلًا فى ميدان أحمد حلمى، ثم جرت عملية تطوير الميدان قبل حوالى عشر سنوات، وكان لابد للتطوير من نقلهم إلى موقع أو ميدان آخر، فكان أن نقلوا إلى ميدان رمسيس، ولما اكتظ هذا الميدان بهم تم إعادتهم إلى موقعهم الأصلى فى أحمد حلمى، الفارق بين الميدانين جسر قصير يعبر قضبان السكك الحديدية، ومن ثم فإن شكوى الباعة من أن «أحمد حلمى» ليس فيه زبائن، فيه مبالغة كبيرة.
لا أريد هنا أن أتوقف أمام عملية النقل ولا أقوال الباعة وتحليل الاقتصاديين، والمهمومين بهذه الظاهرة، فقط تشغلنى قرارات محافظة القاهرة، التى تقوم على قاعدة ترحيل المشاكل وليس حلها، والبحث عن حلول مؤقتة وليس حلولًا جذرية، صحيح أنه تم إخلاء ميدان رمسيس، ولكن الأزمة انتقلت مائتى متر فقط، وسوف تتكرر فى الميدان الجديد، ومن ثم سوف تكون أصداؤها فى ميدان رمسيس نفسه.
أعرف ان اتساع ظاهرة الباعة الجائلين هى انعكاس لأزمة البطالة وتدنى الدخول، البطالة تدفع بالعاطلين إلى هذا المجال، خاصة أنها مهنة لا تحتاج مهارات كثيرة، وتدنى الدخول يدفع بالجماهير الغفيرة كى تشترى البضائع الرخصية، حتى وإن كانت محدودة الجودة، فضلًا عن أن بعض المحلات الكبرى تدفع بمخزونها الراكد إلى هؤلاء الباعة، وإلى أن يتحسن الوضع الاقتصادى لعموم المواطنين وتحل أزمة البطالة علينا أن نتعود على الظاهرة، لكن لابد من تنظيمها.
المحل المرخص يعمل يوميًا فى ساعات معروفة، لكن البائع المتجول يجب أن يحدد له وقت فى الأسبوع، يوم بذاته يعرض فيه بضاعته، وليكن يوم الإجازة، مثلًا سوق السيارات فى مدينة نصر يعمل يومى الجمعة والأحد فقط، ورغم أن سكان المنطقة المحيطة بالسوق يكونون شبه معتقلين فى بيوتهم يوم الجمعة، إلا أنه يوم إجازة، ويمكن لهم الاحتمال، لكن لو أن هذا السوق يعمل يوميًا، ما كان ممكنًا الاحتمال ولا تقبل وجوده أصلًا. ومن قبل كانت هناك أسواق مشابهة، كل سوق ينسب إلى اليوم، سوق الثلاثاء فى السيدة عائشة وسوق الجمعة فى إمبابة، وهكذا، إلى الآن هناك سوق يعقد يوم الاثنين، حتى الظهر، فى مدينة نصر خلف مبنى الجهاز المركزى للمحاسبات يعرض الملابس والأشياء الرخيصة أو المستعملة، لا يحدث هذا فى القاهرة فقط بل هناك أسواق مشابهة فى كثير من المدن المصرية، سواء فى الوجه البحرى أو القبلى، الأمر نفسه موجود فى معظم مدن العالم تقريبًا، حتى القرى فيها نفس النهج، فى قريتنا زمن الطفولة كان يوم الجمعة موعد سوق السمك ويوم الأربعاء موعد سوق بيع وشراء الحيوانات الأليفة والدواب، وهكذا.
وحيث إن القاهرة تكون فى إجازة رسمية يومى الجمعة والسبت، فإنه يمكن الاتفاق مع هؤلاء الباعة على تحديد أماكن لهم، حتى لو كان ميدان رمسيس - نفسه - للوقوف فيه، فى هذين اليومين، فضلًا عن أيام المناسبات، كالأيام التى تسبق الأعياد والمواسم مثلًا.
لا أقول إن ذلك الاقتراح سوف ينهى المشكلة، هو يهذبها ويمنع ضررها الاجتماعى وتعطيل الحركة والمرور بالميادين والشوارع.
أما الحل على طريقة من رمسيس إلى أحمد حلمى، فإنه يفاقم المشكلة، ويكشف عجز الجهات الرسمية عن إنهاء المشكلة، إنه إشهار للأزمة وللعجز عن التعامل معها.
الشىء نفسه حدث فى وسط البلد، تم نقل الباعة من التحرير ومن الشوارع الرئيسية، خاصة شارع طلعت حرب، لكنهم اتجهوا إلى الشوارع الجانبية، أى أنهم تحركوا أمتارًا فقط، قل الشىء نفسه عن الباعة فى ميادين مثل العباسية والعتبة، فضلًا عن أولئك الذين تحلقوا حول بعض المصالح الحكومية اعتمادًا على الموظفين والموظفات الذين يتعاملون معهم، وهم فى طريق العودة من العمل.
نريد حلولًا جذرية وليس حلولًا عن طريق «الجرى فى المحل» التى كنا نمارسها فى طابور الصباح بالمدرسة شتاء، للتدفئة ولمزيد من الاستيقاظ، لكنه جرى لا يدفع صاحبه إلى الأمام، نريد حلًا ليس على طريقة من رمسيس إلى أحمد حلمى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف