الأخبار
ياسر رزق
دولة تستعيد شبابها.. وتتمدد
الأمن القومي في أبسط تعريفاته هو التنمية.
إذا زاد النمو، وغابت العدالة عن توزيع ثماره، انحسرت الشرعية عن النظام. وإذا ضعف النمو، اهتزت السلطة، وانكشف الأمن القومي للدولة.
هذا تقريباً ما لمسناه في سنوات عديدة سبقت ثورة ٢٥ يناير، وفي سنوات معدودة أعقبتها.
• • •
الاستراتيجية في أدق توصيف لها هي حشد كل الطاقات والموارد لتحقيق أهداف الدولة وحماية مصالحها العليا.
فإذا أهدرت بعض الطاقات والموارد، ولم يحسن استغلالها، أو إذا أسيء جمعها في منظومة متكاملة، ووضعت في اتجاهات متناقضة، انقطع الطريق لبلوغ أهداف الدولة، وتهددت مصالحها العليا.
هذا تقريباً ما نراه في أي موقع.. فحين يغيب التخطيط الاستراتيجي يسود التخبط.
• • •
قوة الدولة يمكن حسابها بالأرقام. وهي حاصل جمع قدراتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والأمنية والاجتماعية والسياسية، مضروباً في القدرة المعنوية لشعبها. وكلما ارتفع رقم المعنويات تضاعفت القوة الشاملة للدولة.. فإذا كانت المعنويات صفراً، أصبح حاصل كل ما هو مجموع من قدرات مختلفة يعادل صفراً، وصار ناتج قوة الدولة الشاملة مجرد صفر!.
هذا تقريبا.. ما نطالعه في سير الأديان وقصص المعارك.
• • •
الدولة نفسها كائن حي. يولد ويشب ويشيخ. فإذا لم يعد إليه شبابه يمرض ويموت.
بعبارة أخري.. مالم تتمدد الدولة، علي الأقل بنفوذها وتأثيرها في محيطها، ومالم تحتفظ بمناعتها، تنكمش وتتقلص وتتكالب عليها المطامع.
هذا تقريباً ما نستخلصه من درس التاريخ في مصائر الأمم والشعوب.
• • •
ذلك هو حصاد ما تعلمته في ١٢ شهراً دراسية بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، منذ ٢٠ عاماً مضت.
وذلك ما ذكرتني به عبارات وردت في مداخلات الرئيس عبدالفتاح السيسي يوم الخميس الماضي، وفي كلمته أمس الأول أمام حشود المصلين في الكاتدرائية المرقسية.
ربما وجد البعض في هذه العبارات، عفو خاطر، أو تداعي أفكار، أو وحي مناسبة، لكني أراها معالم طريق ودلائل مقصد.
• • •
يوم الخميس كان الرئيس يفتتح ميناء سفاجا بعد تطويره، ومنفذ أرقين البري علي الحدود مع السودان غرب النيل، ويعلن تدشين الأسطول الجنوبي أو الأسطول الثاني المصري، ويعلن رفع العلم علي حاملة المروحيات »جمال عبدالناصر»‬ كبري قطع هذا الأسطول في البحر الأحمر، بينما تتصدر زميلتها »‬أنور السادات» قطع الأسطول الأول الشمالي في البحر المتوسط.
تلك المشروعات التي اجتمعت بصدفة »‬مقصودة»، تعبر بدقة عن كل ما ذكرت من مفاهيم للأمن القومي والاستراتيجية والدولة الشابة التي تتمدد.
• • •
عبارة موجزة قالها الرئيس أثناء افتتاح تطوير ميناء سفاجا لزيادة طاقته عدة مرات:
»‬الدولة لا تنفق أموالا علي المشروعات دون تخطيط أو رؤية». هذه العبارة تلخص فلسفة كل ما يجري علي أرض مصر.
أذكر عندما التقيت الرئيس السيسي حين كان مرشحا للرئاسة، أنني طالعت بسرعة ٣ ملفات كبري تحمل عنوان »‬الحلم المصري»، وتحوي رؤية الرئيس لصورة مصر الدولة المدنية الحديثة، واستراتيجية تحويل هذا الحلم إلي حقيقة علي الأرض، وبرامج التنفيذ بكل المشروعات التي يجري تشييدها علي أرض مصر موقوتة بجدول زمني وتكاليف مقدرة لكل مشروع ومرحلة.
والحقيقة أن هذه الرؤية لمستقبل مصر، سمعتها مجملة في أحاديث شتي مع الرئيس حين كان مديرا للمخابرات الحربية ثم وزيرا للدفاع، وكانت تعكس حلم مواطن مصري مخلص لبلده، يقوم علي رؤي طموحة، وقناعة بالقدرة علي تحقيقها، بحسن التخطيط وحشد الموارد واستنهاض الهمم..
هذه الرؤية أو الحلم المصري، تجسدت في تخطيط استراتيجي متكامل لمشروع بناء الدولة المصرية الحديثة.
هدف الرئيس السيسي محدد.. هو تحسين مستوي معيشة المواطن في المأكل والمسكن اللائق والرعاية الصحية والتعليم الراقي، ورفع كفاءة الخدمات والمرافق، وتوفير فرص العمل للشباب والخريجين، وحماية مقدرات الشعب وأمنه وقدسية ترابه الوطني وصون مصالحه العليا أينما وجدت.
باختصار.. هو إعادة بناء الدولة بكل مكوناتها، وحسن استغلال مواردها، وتحقيق العدالة في توزيع ثمار النمو والتوازن في التنمية بمختلف مناطق وأقاليم البلاد.
• • •
خريطة البلاد السياسية وحدودها الجيوبوليتيكية كانت في ذهن الرئيس، وهو يحول الحلم إلي رؤية، والرؤية إلي تخطيط، والتخطيط إلي برامج، والبرامج إلي مشروعات.
إذا أردت زيادة متسارعة في معدلات النمو والتشغيل، لابد من التوسع في الصناعة والزراعة والتصدير.
وإذا أردت تشجيع الاستثمار لإقامة هذه المشروعات وتحقيق هذه الغايات، لابد من بيئة تشريعية محفزة مثل ما جري في قرارات المجلس الأعلي للاستثمار، ومشروع القانون الجديد. لابد من توفير الأراضي لمشروعات الصناعة والزراعة، ومصادر الطاقة من كهرباء وغاز طبيعي لتدور الآلات وتعمل المعدات، وإنشاء شبكة طرق تربط هذه المشروعات بالمواني والمطارات، وتحديث المنافذ البحرية والجوية والبرية لتستوعب حركة استيراد مستلزمات الإنتاج والاستهلاك وتصدير المنتجات الصناعية والزراعية.
لابد أيضاً من فكر جديد يحول المشروعات الصناعية والزراعية إلي مجتمعات عمرانية منتجة، لا بؤر معزولة في مناطقها.
إذا أردت تخفيف الزحام والتكدس عن العاصمة ومدن الدلتا والصعيد، لابد من إنشاء عاصمة إدارية ومدن جديدة لتفريغ الكتل الإدارية والسكانية، والخروج من الوادي الضيق، ولابد من إقامة محطات مياه شرب وصرف صحي وكهرباء لهذه المدن الجديدة وإنشاء طرق جديدة تربطها بمحيطها.
لابد مع كل ذلك من رفع كفاءة شبكة الطرق بالبلاد لتحسين حركة انتقال الأفراد والبضائع في كل أرجاء البلاد.
إذا أردت استغلال المناطق ذات الموقع الاستراتيجي في البلاد والإمكانات الصناعية والزراعية والسياحية الواعدة كإقليم سيناء ومنطقة القناة، لابد من ازدواج قناة السويس وإنشاء شبكة أنفاق للسيارات والسكك الحديدية تربط سيناء بالوادي وإنشاء موانئ جديدة بهذه المنطقة تستوعب حركة التجارة استيراداً وتصديراً.
إذا أردت رفع مستوي معيشة المواطن، لابد من توفير فرص العمل الكريم له في مشروعات مجزية، وإذا أردت تحسين مستوي الرعاية الصحية لأسرته والتعليم لأبنائه، لابد من توفير الموارد اللازمة لذلك، وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون إقامة المشروعات وزيادة الإنتاج ورفع معدلات التصدير وبالتالي مضاعفة إيرادات الدولة من الضرائب والجمارك للإنفاق علي الصحة والتعليم وغيرهما من الخدمات كالإسكان الاجتماعي، وتسكين قاطني العشوائيات في مساكن لائقة، وزيادة المعاشات الضمانية للأسر غير القادرة علي الكسب.
• • •
تلك المعادلة المترابطة، كانت وراء تخطيط وتنفيذ كل ما نراه من مشروعات علي أرض مصر، وفقا لرؤية واضحة ومخطط استراتيجي شامل، ودراسات تفصيلية دقيقة للموارد والقدرات والأولويات.
علي سبيل المثال.. ما كان يمكن تطوير ميناء سفاجا، إلا بوجود مخطط لمشروعات يخدمها هذا الميناء، وما كان يمكن البدء في هذه المشروعات دون توسعة طاقة الميناء ليوفر لها احتياجاتها من مواد خام ومستلزمات انتاج مستوردة، ويستوعب حجم البضائع التي سيتم تصديرها من ناتج هذه المشروعات.
بالقرب من ميناء سفاجا، سيتم تدشين مشروع المثلث الذهبي للصناعات التعدينية، وسيتم إنشاء ٤ مناطق صناعية للصناعات التعدينية والتجارية، وكذلك تطوير مدن القصير وقفط وأخميم وسفاجا.
وتحقق تلك المشروعات، وغيرها من مناطق صناعية ومدن جديدة في صعيد مصر بدءاً من بني سويف وحتي أسوان، بجانب مشروع المليون ونصف مليون فدان الزراعي الضخم الذي تقع معظم أراضيه في مناطق الصعيد، طفرة كبري في تنمية جنوب الوادي وتوفير فرص التشغيل لأبنائه، وتحقيق العدالة في النمو والتوازن في التنمية بين أقاليم البلاد، وبالأخص إقليم الصعيد الذي عاش مهمشاً عقوداً طويلة.
كان لابد من ربط هذه المشروعات بميناء سفاجا، لذا تم إنشاء ورفع كفاءة طريقي (قنا- سفاجا) و(سوهاج- سفاجا)، بجانب البدء في المشروع الضخم لإنشاء محور (٣٠ يونيو) الذي يبدأ من غرب بورسعيد إلي الحدود المصرية مع السودان عند حلايب، مروراً بمدن البحر الأحمر ومنها سفاجا.
• • •
الرؤية الاستراتيجية للتكامل العربي، وإحياء قلب نابض لهذه الأمة المضطربة مركزه في مصر، ومحيطه في ليبيا والسودان، كان وراء مشروعات ربط مصر بالبلدين الشقيقين، عن طريق منفذ قسطل مع السودان الذي تم افتتاحه مؤخراً، ثم منفذ أرقين إلي الغرب منه والذي افتتحه الرئيس يوم الخميس الماضي.
وبجانب منفذ السلوم الذي يربط مصر بليبيا عن طريق ساحل البحر المتوسط، سمعنا الرئيس السيسي وهو يتحدث عن منفذ جغبوب في شمال الصحراء الغربية، وضرورة البدء في إنشائه، وسمعت اللواء كامل الوزير رئيس الهيئة الهندسية يقول انه تم الانتهاء من إنشاء الطريق الذي يربط واحة الفرافرة بمنفذ جغبوب.
هذه الشرايين والمنافذ التي تربط قلب الأمة العربية في مصر والسودان وليبيا، تنقل أمنيات التكامل وزيادة حركة التجارة وانتقال الأفراد وتدعيم الروابط الاستراتيجية بين الدول الثلاث إلي حيز التنفيذ، خاصة بعد تحسن الوضع السياسي والأمني في ليبيا الشقيقة.
• • •
إذا نظرنا إلي حاملتي المروحيات »‬الميسترال»، ومن قبلهما مقاتلات »‬الرافال»، ومن بعدهما الغواصات (٢٠٩)، ثم مقاتلات الميج الروسية في منتصف هذا العام.. نجد في الحصول عليها اتساقاً مع الرؤية الشاملة في إقامة الدولة المصرية الحديثة، وفكر القيادة السياسية في تأمين البلاد ومقدرات الشعب وحماية مصالحه الحيوية في محيط الإقليم المصري وخارجه.
أذكر حين ترك المشير السيسي منصبه كقائد عام للقوات المسلحة ليترشح لانتخابات الرئاسة، أن اللواء محمد العصار مساعد وزير الدفاع حينئذ قال لي إن ما تحقق من تطوير في قواتنا المسلحة خلال قيادة المشير السيسي ما كان لأحد من العسكريين أن يتصور حدوثه قبل ١٠ سنوات.
وأذكر ما قاله لي الفريق يونس المصري قائد القوات الجوية حين التوقيع علي صفقة مقاتلات »‬الرافال» أنه لولا جهود السيسي وعلاقته الشخصية الوطيدة مع الرئيس أولاند، ما أمكن لنا الحصول علي هذه الطائرات المتطورة بهذه التكلفة.
نفس الكلام سمعته من الفريق أسامة ربيع قائد القوات البحرية السابق حين تم التعاقد علي الفرقاطة »‬تحيا مصر» طراز »‬فريم»، وحين وصلت الحاملتان »‬جمال عبدالناصر» و»‬أنور السادات».
يعرف السيسي وهو مغرم بالتاريخ العسكري ودارس للاستراتيجية العسكرية في مصر وبريطانيا وأمريكا، أن الردع يمنع الحرب، وأن الضعف يغري بالعدوان.
يعلم السيسي أن حماية التراب الوطني وصون القدرات الاقتصادية، ومد مظلة النفوذ السياسي والوفاء بالالتزامات القومية، كلها أمور ترتبط معا ارتباطاً وثيقاً بامتلاك قوات مسلحة حديثة ورادعة.
كان لابد من امتلاك حاملتي المروحيات لتأمين مصالح مصر وثرواتها في مياهها الاقتصادية بالبحر المتوسط وغيرها.
كان لابد من إنشاء الأسطول الجنوبي وواسطة عقده الحاملة »‬جمال عبدالناصر» لتأمين مصالح مصر في البحر الأحمر وما وراءه، والوفاء بالتزامات مصر في الدفاع عن أمن دول الخليج العربي إذا تطلب الأمر.
وكان لابد من إنشاء قوة الانتشار السريع، ووحداتها عالية التدريب خفيفة الحركة وكثيفة النيران، للقيام بالمهام اللازمة في مجابهة الإرهاب الذي يستهدف مصر حيثما وجد.
وكانت لحظة تدشين الأسطول الجنوبي ورفع العلم علي الحاملة »‬جمال عبدالناصر»، نقلة جديدة في الفكر العسكري المصري الذي ينبذ العدوان علي الغير، ويقطع الطريق علي أي عدوان يستهدف الإقليم المصري أو المصالح الحيوية لمصر في دوائر الأمن القومي المباشر والقريب.
• • •
يدرك الرئيس السيسي أن القدرة المعنوية هي أهم عناصر القوة الشاملة للدولة، وأن الروح المعنوية للشعب هي أقوي سلاح له في مواجهة كل محاولات الاستهداف.
لذا لا يكف الرئيس عن ترديد عبارات الاصطفاف الوطني وتوحد الصف، يسعي السيسي لاستنهاض الهمم وشحذ العزائم، ولعل في انجاز مشروع ازدواج قناة السويس في عام واحد بجانب أهميته الاقتصادية والاستراتيجية، عنواناً لهذا المعني والهدف.
يتحدث السيسي عن البناء في مواجهة محاولات التشكيك، وعن الأمل في مواجهة دعاوي التيئيس والإحباط.
سمعناه يتكلم في مناسبات عديدة آخرها أمس الأول في الكاتدرائية المرقسية عن مصر الجديدة، مصر المحبة والسلام والأمان والاستقرار، التي علمت العالم، وستعلمه من جديد هذه القيم السامية.
يعرف السيسي قدر مصر، ويريد مع الشعب، أن يزيد منه ويرفع من شأنه.
ويعرف أيضاً أن كرامة الشعب هي أغلي ما يملك لذا كان دعاؤه في ختام كلمته أمام المصلين في الكاتدرائية: »‬اللهم اغن مصر وشعبها عمن سواك».
هذه هي مصر التي تستعيد شبابها، ويمتد تأثيرها.. وتتمدد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف