المصريون
أ.د. إبراهيم أبو محمد
اعلام الغواية.. بين الخطأ العظيم ، والخطيئة الأعظم
بعد نشر مقال " الكلمة بين عهدين" في الأسبوع الماضي علق صديق نابه على العنوان قائلا: كان يجب تغيير العنوان ليكون " استنساخ المسخ " ورأيت أن اختيار الصديق كان موفقا حيث في عصر الستينات من القرن الماضي ورغم تحكم السلطة في كل مصادر المعلومات، ورغم القبضة الحديدية ووحدانية المصدر في الإعلام والتوجيه فقد انكشف الكذب وعرف الناس أن النظام يغشهم ويكذب عليهم. وتغير الزمن وتطورت الدنيا، ورغم ذلك التغيير الهائل ، واتساع المساحات الثقافية والقدرة الكبيرة التي وفرتها الوسائل والوسائط التكنولوجية في الحصول على المعلومة وفي أقصر زمن ممكن ، إلا أن الأذرع الإعلامية الآن لا زالت تعيش بعقلية الستينات، ولأنها تتكون من إعلاميين من متوسطي الذكاء والكفاءة تربوا في أحضان النظم الدكتاتورية فلا زالت تمارس دورها بنفس نمط وعقلية القرن الماضي, وتستعمل الذين تدربوا في محاضن الأمن على كيفية شغل الجماهير والشغب عليها بإثارة قضايا جدلية ومثيرة ومستفزة أحيانا ,ومن ثم فالتجارب تتكرر وبنفس الأسلوب هذه الأيام, ولذلك نسمع نفس حديث إعلام الستينيات عن المؤامرة على مصر وحماية مصر بالرياح الشمالية الغربية , وأسر قائد الأسطول السادس، وما إلي ذلك من هذا الهراء الذى لا يكيد عدوا ولا يقنع صديقا , لأنه هراء لا يقبل به أطفال. وبما أن هذا الاستنساخ يفتقد القدرة والكفاءة فقد جاء مشوها ولم يصل في مستواه ليكون تكرارا لما كانت تردده المدارس الإعلامية في الستينات قديما، ولذلك قررت أن استفيد شاكرا من اقتراح الصديق وأجعل من هذا المقال تكملة للمقال السابق بعد أن أضيف إلي العنوان وصفا يحفظ الفرق بين المسخ الأصلي وبين استنساخ الهواة المشوه والمفضوح فكان العنوان: "إعلام الغواية " بين الخطأ العظيم والخطيئة الأعظم" من الواضح خلال المتابعة لبرامج "التوك شو" التي تبثها الفضائيات المصرية أن العقلية التي تدير تلك الأذرع الإعلامية وتعطيها التوجيهات وخريطة الهدف لا زالت تسيطر عليها ثقافة النكسة، ومن ثم فهي تنطلق في التعامل مع الجماهير من منطق المهزوم والمأزوم الذي يحاول التستر على هزيمته وفشله بإخفاء الحقيقة ، والاستمرار في خداع الناس، ومن ثم فلا زالت تظن بأن استمرار كتيبة الكذب وفرضها على الشاشة يعني السيطرة على الرأي العام والقدرة على تشكيله والتأثير فيه, وهذا غير صحيح البتة , لأكثر من سبب : أولا: المشاهد عندما يحرك الريموت كنترول لينتقل من قناة لأخرى ومن برنامج لآخر سيجد نفس الكلام يتكرر في كل القنوات تقريبا, وبنفس الألفاظ والمفردات, وفي ذات القضية, فيدرك بفطرته أن هذا ليس إعلاما ، وإنما هو نوع من التطبيل المهين. ثانيا: نحن نعيش في عصر التوثيق التكنولوجي والسماوات المفتوحة, حيث محرك البحث " جوجل " في جهاز بسيط يستطيع أن يقوم بما كان يقوم به أكثر الأجهزة تعقيدا في أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم, وهو جهاز كشف الكذب, ومن ثم فالفضائيات ولو بلغ عددها مثل سكان مصر- إذا فقدت الموضوعية والمهنية والمصداقية فستتحول في نظر المشاهدين إلى مجرد مصانع للخداع والكذب ، تتولى عملية الإلهاء وتحويل الاهتمامات, ولا ندرى من هو العبقري الذى سول للنظام أن يختار هؤلاء؟ أم إن هذا من توفيق الله في الخذلان كما يقولون؟ ثالثا: كانت الكلمة في الستينات تصدر من أقلام لها صفة الاحتراف ومن خلفها عقول تراكمت لديها خبرة السنين فعرفت كيف تخاطب الناس وكيف تحرك وجدانهم وكيف تحمل طابع عصرها, وكأنما كانت الكلمة تستمد قوتها من مكانة الوطن رفعة وحضورا بين دول العالم ، فكان الألق الوطني فيها يخطف الأبصار بجماله وبيانه وبلاغته. رابعا " كانت الكلمة ممزوجة بحالة من الكبرياء الوطني الذي يرفض الهزيمة ويصر على مكان القيادة والريادة لمصر شعبا وزعيما وتاريخا, بحيث كانت الجملة يومها حين تكتب في صحيفة أو تقال في مذياع كأنها سبيكة من الذهب الخالص، تحمل مفرداتها عشقا وطنيا مترفعا عن السقوط وعن الترخص والبذاءات, وكذلك كانت مصر. وعند المقارنة يتضح لك الفرق : إقرأ معي: وقارن بين عهدين حتى في مستوى الكلمة يا سيدي ،الخفق لك ، والعزف لك. خذنا معكْ ،فنساؤنا حبلى بنجمك في الفلكْ. سبحان من قد عدّلكْ، ورجالهم حاضوا، فما خاضوا ، ساساتهم ساسوا فما استاسوا وحكيمهم رجِفٌ إن شاء عانق خزيهُ ، أو شاء ضاجعه الملكْ. الكلمة هنا تعكس حالة مجتمع وتعبر عما يسود فيه من قيم, كما أنها معيار لحالته العلمية والثقافية ودرجة ارتفاعه وسموه, أو درجة سقوطه وانحداره , فهل هذه مصر التي يعرفها أبناؤها وقد وعد أحدهم أن تكون "أم الدنيا وأد الدنيا " ؟ ما الذى جعلها الآن شبه دولة باعتراف نفس أصحاب الوعد الأول ، لماذا هي الآن بين أهل المسخ والعته تتعثر وتتلعثم وتمر بفلاتر، ومع ذلك يتسرب منها الكذب المفضوح والغدر القبيح وخيانة الأمانة، وتخرج مشبعة بإحساس الدونية، تتوسل وتتسول، وتبحث عن دور ووظيفة ولو تحت بير السلم في دول المقدمة، وفي سبيل ذلك تبيع كل شيء، الدين والوطن والكرامة، وتعرض نفسها للبيع في سوق النخاسة الدولية ولا تجد من يشتريها، لأن أسواق العالم تعودت أن تأخذ سلع النفاق والخسة والدناءة والسقوط بلا ثمن, ومن ثم فعملية الاستنساخ من البداية خاطئة والنسخ مشوه والناسخ معتوه، ولا عزاء ولا جديد لإعلام الغواية والفتنة السياسية بعد حديثه عن أسر قائد الأسطول السادس وحماية مصر بالرياح الشمالية الغربية، وحكاية معركة عين جالوت بأنها كانت بقيادة رمسيس الثاني ارتكب الإعلام الخطأ العظيم أمام كل الدنيا بأن جعلنا موضع التندر والسخرية وأضحك علينا طوب الأرض, أما الخطيئة الأعظم فإن هذه ـ الأذرع والكتائب الإعلامية - لا تكتفي بممارسة الكذب والإلهاء فقط , وإنما مارست وتمارس الآن دور المحرض وتلعب في النسيج الاجتماعي للشعب الواحد وتعمل على تقسيمه و خلق ولاءات كل منها ينكر الآخر ويرفض وجوده, ويسعى لا إلى إقصائه فقط , وإنما إلى سحقه وإلغاء وجوده ، وبذلك يستمر الحريق متغذيا على وقود الكراهية والعنصرية والطائفية والمذهبية , ليخلق حشدا يكون رأي عام غبي يشتعل لأول وأبسط شرارة يشعلها الأغبياء أو الخبثاء. وإذا كان من أمهات الكبائر أن يساهم الفن غناء وتمثيلا في ترسيخ هذا التقسيم "إنتوا شعب واحنا شعب رغم إن الرب واحد ليكو رب ولينا رب" هكذا !!! فإن من أمهات الفواحش السياسية أن يدخل إلى نفس الميدان البغيض بعض من ينتسبون إلي العلم الديني من كل الطوائف وينحازون إلي العدوان ويتولون مهمة التبرير واغتيال الحقوق. مصر الآن أكثر من أي وقت مضى في حاجة لمن يقود خطاها نحو الأمل التائه والبوصلة المفقودة, ومن يسقي بذور الخير في نفوس المتخاصمين وأهل الصراعات السياسية, ويذكرهم بالله والرحم والوطن ووشائج الاخوة, ويقرر بينهم أن كل صراع سياسي يجب أن يكون له سقف وطني وأخلاقي يؤمن أن الدم المصري كله يجب أن يكون مصانا في الغضب والرضا, وحتى دماء المخطئين ,كما يجب أن تكون تلك القاعدة من الثوابت الوطنية للمجتمع كله وبكل أطيافه السياسة في الحكم أو في المعارضة , وحتى في حالات الاستقرار أو السيولة الثورية والصراعات في حادثة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وحكايته المشهورة مع سكرتيرته مونيكا لوينسكى لم يحاكم الرئيس في مجلس الشيوخ لعلاقته بمونيكا, فيومها قال رئيس مجلس الشيوخ نحن لا نحاكم الرئيس على علاقته بمسز لوينسكي فكل من في هذه القاعة له علاقات من هذا النوع , ولكننا نحاكمه لأنه كذب على الشعب الأمريكي ولم يقل الحقيقة ,ولذلك قد تعرض للمحاكمة والاتهام بتعطيل سير العدالة . فهل يعي هذه الحقيقة ويستفيد منها مَنْ يُشغِّلون مصانع الكذب في أم الدنيا ويشرفون على مجموعة تأبط شرا ويقومون على رعايتهم وحمايتهم وتوفير الحصانة لهم َ.؟؟؟ أعضاء كتيبة الكذب هذه مكانهم ليس على شاشة فضائيات يشاهدها الناس. وإنما هم يحتاجون إلى الدخول في مصحات عقلية تعلمهم أن للناس عقولا يجب أن تحترم، وأن للناس شرفا يجب أن يصان، وأن مصر تنفى خبثها كما ينفي الكير صدأ الحديد. فهل في القوم رجل رشيد يقول لهم: كفوا عن الكراهية وتوقفوا عن طفح نجاسات النفوس الخبيثة. وبرغم البؤس , ورغم اليأس ومر الكأس سيذهب هؤلاء وتبقى مصر........وعاشت مصر. ** المفتي العام للقارة الأسترالية

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف