إذا كانت ثورية 1919 قد وضعت سلطة الحكومة في أيدي المصريين لأول مرة. فلعل أروع انجازات الثورة علي الاطلاق- وسيم خالد يعتبره الانجاز الوحيد لها- هو وحدة عنصري الأمة. والتفافها حول الوفد- وكان خمسة من أعضائه من الاقباط- في إجماع بلغ حداً رائعاً في مقاطعة لجنة ملنر. وكان ذلك تأكيداً للفكرة القومية الليبرالية التي ترفع شعار وحدة عنصري الامة علي حساب الفكرة الاسلامية. ومن ثم فقد بدأ الشيخ يخطب في الكنيسة. والقسيس في المسجد. ووقف المعمم إلي جانب المطربش. والمتعلم إلي جانب الأمي "وشعر الكل بروح من التسامح الخالص إزاء بعضهم البعض تسامحاً لابد منه لإمكان الوحدة والتعاون".
ارتفع شعار الدين لله والوطن للجميع. خطب علي منبر الازهر عدد من قيادات الكنيسة القبطية. مثل القمص سرجيوس. والقمص بولس غبريال. وغيرها. باالاضافة إلي ممثلين عن السريان الكاثوليك والروم الكاثوليك والروم الارثوذكس. وقال القمص سر جيوس: "إذا كان الاستقلال موقوفاً علي الاتحاد. وكان الاقباط في مصر حائلاً دون ذلك فإني مستعد لان اضع يدي في يد إخواني المسلمين للقضاء علي الاقباط اجمعين. لتبقي مصر أمة متحدة. مجتمعة الكلمة. وقال: إذا كان الانجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية القبط. فأقول: ليمت القبط. وليحي المسلمون أحراراً. كان اقتران اسم سعد زغلول وثورة 1919 بهذه الروح العميقة من الولاء لفكرة وطنية- والرأي لمصطفي الفققي- تعلو كل الولاءات. هو الذي أدي أختلاط أجراس الكنائس بأصوات المؤذنين فوق المآذن. في سيمفونية مصرية رائعة.
وحين استقالت وزارة محمد سعيد باشا في 15 نوفمبر 1919. تألفت وزارة أخري برئاسة يوسف وهبة باشا. في الحادي والعشرين من الشهر نفسه. وأحس زعماء الاقباط بالمهانة التي حملها إليهم هذا القبول. فاجتمعوا- في اليوم نفسه- في الكنيسة المرقسية الكبري برئاسة القمص باسيلوس وكيل البطريركية. وبعثوا برقية إلي يوسف وهبة يقولون فيها: "الطائفة القبطية المجتمع منها ما يربو علي الالفين في الكنيسة الكبري. تحتج بشدة علي إشاعة قبولكم الوزارة. إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر. وهذا يخالف ما أجمعت عليه الامة المصرية من طلب الاستقلال التام ومقاطعة اللجنة. فنستحلفكم بالوطن المقدس. وبذكري أجدادنا العظام ان تمتنعوا عن قبول هذا المنصب الشائن.
ولعل أخطر ما في تعيين الانجليز ليوسف باشا وهبة في منصب رئيس الوزراء. هو رغبة سلطات الاحتلال في الايقاع بين المسلمين والاقباط. وضرب ثورة 1919 في أهم مكاسبها. وهي الوحدة الوطنية وبخاصة إذا وقع علي حياته اعتداء مثلما حدث لبطرس غالي من قبل. ليتجدد الانقسام الذي كاد يهدد وحدة البلاد بعد حادثة بطرس غالي. لكن المبادرات التي قام بها الاقباط ضد يوسف وهبة لقبوله تأليف الوزارة. كان لها تأثيرها الفوري والمباشر في إحباط المخطط الاحتلالي. كما صحب عبدالرحمن فهمي ستة من أعضاء الوفد إلي الكنيسة يوم الاحد 23 نوفمبر. وأكد عبدالرحمن ورفاقه لابناء الكنيسة تألمهم من قبول يوسف وهبة لرئاسة الوزارة. وانه إذا كان قد وجد من الاقباط خائناً قبل رئاسة الوزارة في هذه الظروف الحرجة. فقد وجد من المسلمين سبعة بجواره قبلوا دخول الوزارة. وعندما ألف سعد زغلول وزارته. اختار اثنين من الاقباط ليكونا وزيرين. قيل له إن التقاليد جرت علي ان يكون في الوزارة قبطي واحد. قال: "هذه وزارة الثورة وعندما كان الانجليز يطلقون علينا الرصاص. لم يراعوا نسبة الاقباط إلي المسلمين. وعندما كانوا ينفوننا إلي سيشل لم يراعوا النسبة. فقد كنا أربعة من المسلمين واثنين من الاقباط.. وعندما حكم علي أعضاء الوفد بالاعدام لم يراعوا النسبة أيضاً. فقد كانوا ثلاثة أقباط وأربعة مسلمين.
وفي استعراض "إش" الذي قدمه الريحاني إبان الثورة: لا تقولي نصراني ولا يهودي ولامسلم.. ياشيخ اتعلم.. اللي أوطانهم بتجمعهم.. عمر الاديان ما تفرقهم.