تقلدت مارجريت تاتشر مقعد زعيم المعارضة لمدة ثلاث سنوات قبل أن تتخذ قرارا جريئا باسناد حملة الدعاية لحزب المحافظين فى الانتخابات العامة إلى وكالة إعلان شهيرة، فكانت تلك هى المرة الأولى التى تقوم وكالة محترفة بالعمل لحزب سياسى بريطانى وفى أغسطس عام 1978، أصدرت الوكالة ملصقا يعتبر على نطاق واسع اليوم أهم الأعمال المحترفة فى مجال «الاتصال السياسي» فى تاريخ بريطانيا وكان عبارة عن ملصق يحمل صورة طابور يمتد لمسافة طويلة مع ثلاث كلمات فقط هى «العمل لا يعمل» Labour Isnt Working .
فن الاتصال السياسى تغير جذريا فى عصر وسائل الإعلام، لكن الهدف الرئيسى والمركزى للزعماء السياسيين مازال هو الحفاظ على التركيز على الأشياء الكبيرة والأفكار الكبيرة، والأهداف الملحة للمجتمع، وليس تشتيت انتباه المجتمع بالعواصف السياسية الطارئة التى لا مفر منها والتى تأتى وتذهب وينساها الرأى العام سريعا. تقول دراسات حديثة إنه فى عصر مختلف ليس من السهل تحقيق هدف التركيز على الأهداف الكبيرة فهو تحد من نوع خاص فى أوقات الأزمات الكبيرة أو فى غير أوقاتها!
ظهور وسائل الاعلام الاجتماعية كان له تأثير كبير على التواصل السياسي. ويمكن للسياسيين التواصل مع الناخبين دون وساطة ودون الحاجة الى الذهاب لوسائل الاعلام لتقديم أنفسهم. فقد وفرت هذه الأشكال الجديدة من الاتصال دفعة كبيرة للجهات السياسية، وتحديا للمؤسسات التقليدية أيضا، نظرا لتكلفتها المنخفضة والشعبية الواسعة التى تتحقق لمن يقوم بالتواصل مع الجمهور مباشرة. فقد أصبحت وسائل الاعلام الاجتماعية، وبخاصة تويتر، منصات مثالية للتواصل السياسي. تعتبر حملة دونالد ترامب هى نقطة التحول الكبرى فى الاتصال السياسى الحديث بعد أن اعتمد المرشح الجمهورى على مواقع التواصل الاجتماعى وتجنب اللقاءات الجماهيرية الصاخبة لمخاطبة ناخبيه وكثف من وجوده على موقع تويتر واستخدم مواقع الكترونية أقل شهرة من وسائل الاعلام التقليدية بينما كانت منافسته هيلارى كلينتون تنفق بسخاء على مؤتمرات جماهيرية يحضرها نجوم المجتمع وهوليوود من أجل دعمها وهو ما ترجم فى صورة انفاق يزيد 10 اضعاف عما أنفقه ترامب فى حملته والتى جاءت به الى البيت الأبيض. سقطت الوسائل التقليدية للتواصل مع المجتمع وصعدت وسائل أكثر حداثة تمثل نقلة نوعية كبيرة فى الاتصال السياسى عالمياً!
فى الاختبار الأحدث على الساحة الدولية، تستغل الحركات الشعبوية فى الغرب هذه الفرصة فى وقت تحول عالم السياسة الى مزيد من الصخب والاثارة والفضائح السياسية، بينما تراجعت ثقافة المناظرات فى الديمقراطيات الغربية، وهو ما أدى الى استقطاب فى المناقشات السياسية بدلا من الحوار القائم على تقديم الحقائق للرأى العام.
يقول مشروع «حوار حول أوروبا» ليست بالضرورة أمرا سيئا. وبدلا من ذلك، فانها تعتبر جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا السياسية. فنحن بحاجة الى «قيادة كاريزمية» يمكن الوصول بها الى كل ناخب. المعضلة أنه كلما تزايد اعتماد التيارات الرئيسية بين السياسيين على صناعة السياسة بالطرق التقليدية اعتمادا على التكنوقراط، ممن يتعاملون مع السياسة باعتبارها أمورا «فنية» لاضفاء الشرعية على سياساتهم، يفقد الناخبون التواصل مع «النخبة السياسية»، وبالتالى يفقد الاهتمام بالسياسة تماما، حيث يجرى الترويج للقرارات التقنية المتخذة على اعتبار أنها معقدة للغاية ويصعب أن يفهمها الغالبية من المواطنين.
فى تفسير ما سبق، نجد أن الوسائل القديمة فى التواصل السياسى لم تعد كافية ولم تعد قادرة على إقناع الرأى العام بالخطاب التقليدي. وظيفة السياسيين أن يشرحوا لناخبيهم ما هى سياساتهم بطريقة تحترمهم ودون الادعاء بأن الناس أغبياء أو لا يمكنهم فهم ما يقدم اليهم. يعتقد خبراء أن هذا هو السبب فى نجاح الأحزاب الشعبية فى الآونة الأخيرة، فقد فهموا أن السياسة تحتاج العواطف والمثالية بدلا من صنع القرار بطريقة واقعية وعبر التكنوقراط، على الأقل خلال الحملات الانتخابية. ويقول المشروع الأوروبى إن هذا هو المفتاح لفهم لماذا ينجح الشعبويون فى استخدام وسائل الاتصال الجديدة.
ما الذى نتعلمه من تلك الموجة الجديدة؟
ما يجرى اليوم على الساحة الدولية، خاصة فى الغرب، يقدم لنا دروساً فى كيفية تطوير طرق التواصل السياسى مع المواطنين، فالملاحظ أن طرق التواصل عتيقة وقديمة لدينا ومازالت استراتيجية الاتصال تفتقر الى العمق والتخطيط العلمى وهو ما ظهر بوضوح لدينا فى التطورات السياسية الأخيرة التى تستوجب وجود خطاب محترف يوجه الى الرأى العام حول الأزمات التى تمس قضايا كثيرة من السلع الأساسية الى السياسة الخارجية. فطريقة مخاطبة الرأى العام عن طريق المسئولين التكنوقراط أو الفنيين فى الحكومة ثبت أنها تضر السلطة السياسية أكثر مما تنفع فى تمرير القرارات والخطط الجديدة حيث لا يوجد اطار سليم لكيفية مخاطبة الجماهير مثلما هو الحال فى دول أخرى أكثر تطوراً. فى بلد مثل مصر، لا نفتقر الى تلك الكفاءات القادرة على تقديم سيناريوهات أو تصورات عن الاتصال السياسى الحديث وهو ما أصبح من أبجديات عمل ونجاح أى حكومة فى الدول الحديثة. فمن الملائم اليوم أن نتحرك فى اتجاه تشكيل مجموعات عمل تدرس خصائص الجمهور المستهدف فى كل قضية أو أزمة وتقترح السيناريوهات المناسبة بدلا من الأشكال البدائية فى تسويق القرارات على الرغم من خطورة وأهمية الكثير من السياسات الجديدة التى تستهدف علاج تراكمات خاطئة على مدى عقود طويلة. خلاصة القول: انتبهوا الى قيمة الاتصال السياسى الحديث فلم يعد رفاهية ولم يعد يجدى أن يظل أسلوبا علميا مهملا مثلما كان الحال فى الماضى!