الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
الاعتراف بخطايانا
سعياً لإجراء حوار صحفى قبل خمسة عشر عاماً، التقى كاتب هذه السطور بالكاتب الراحل الدكتور بهاء الدين إبراهيم، بعد أن انتهى من كتابة مسلسله عن سيرة حياة الإمام محمد متولى الشعراوي، وكان أن تحدث عن كيفية تجاوزه لاعتياد الإمام الشعراوى تدخين «السجائر» مؤكداً أنه عالج ذلك درامياً بأن جعله يدخن فى صباه حتى «قفشُه» والده فأقلع عن التدخين. وكان أن تناقشت معه بعد الحوار مؤكداً (أن هذا تجاوز لواقع حياة الإمام الذى كان التدخين سبباً رئيساً فى كثير من المشكلات الصحية التى واجهته)، لكن وجهة نظر المؤلف كانت أنه يقدم قدوة وبالتالى من غير اللائق أن يقدمه مدخناً شرهاً كما كان. وحين نرجع لتاريخ التعامل الدرامى مع الشخصيات الرمزية فى المجتمع على أى مستوي، نكتشف أن الفن حين يجسد شخصية واقعية على أى من شاشاته، يقرر صانعوه أن يقدموا لنا ملائكة لا بشرا، هكذا كان الأمر فى (أم كلثوم - ناصر 56 - أيام السادات - حليم - السندريلا)، وهكذا أداءات تعكس تعاشق المصالح التسويقية بين صناع الأعمال فناً ومنتجيهاً تجارة ومتلقيها وعياً، وبالتالى عاش مجتمعنا على تقديس النجوم أياً ما كانوا.

المثير للدهشة أن قداسة الأنبياء لم تنزع عنهم بشرية الأداء، التى جعلها الله دليلا على إعجاز الرسالة، حتى إن قريشاً واجهت النبى محمد صلى الله عليه وسلم ببشريته، محاولة التشكيك فى نبوته، فجعلها الله قرآناً يتلى إلى يوم الدين ليرسخ بشرية حامل الرسالة فى الأداءات الإنسانية كون القداسة والعصمة صفات ملازمة لمدارات الرسالة والوحى (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق)، وعبر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الأداءات الإنسانية هى سيدة الموقف.

من منصة البشرية ينطلق المخرج المبدع مجدى أحمد على صانعاً فيلمه (مولانا)، قافزاً على كل (تابوهات) عصور ولت عنوانها كان (القداسة). حيث قداسة المستبد الذى يحكم، والمسئول الذى يتحكم، وصاحب المال الذى يسيطر، ومالك القوة الذى يفرض، وعالم الدين الذى يسير فى فلكهم جميعاً، تتحرك به سواقى الأوطان بينما على العيون عصابة القداسة تحول بين الشعوب وعقلها، وتمنعها من إعمال نعمة العقل فى شتى مناحى الحياة، لتتحول جموع المواطنين إلى قطعان مهمتها أن ترعى فى حقول الوطن لتنمو ثروات أصحاب القداسة على اختلاف مشاربهم.

حين دعانى المخرج مجدى أحمد على لعرض الفيلم الخاص، كان القلق هو سيد الموقف، فلقد جمعنا ميدان (الثورة) أصدقاء رغم اختلاف المشارب والتوجهات وآليات الطرح، خاصة أنه مخرج اختار لنفسه السير فى طريق صدمة الوعى قفزاً على كثير من التابوهات المجتمعية خاصة تلك التى تتعرض لقضايا الدين والجنس، وفى الطريق إلى العرض حدثتنى نفسى كثيراً عن الآلية التى حول بها المخرج رواية (مولانا) للكاتب إبراهيم عيسى إلى فيلم، وبمجرد دخولى بهو قاعة العرض ألحت بعض الفضائيات فى التسجيل معى حول العمل الذى لم أشاهده بعد، قلت (إننا أمام عمل سيكون له ما بعده، وكما نحن بحاجة إلى تجديد فى خطابنا الديني، فنحن فى أمس الحاجة إلى تطوير الرؤى فى المعالجات الفنية بحيث تسهم فى تجديد الدين لا تهميشه) كان حديثى هروباً من الانحياز لعمل لم أشاهده بعد.

حتى كان أن شاهدت، فحملنى مجدى أحمد على منذ اللحظات الأولى إلى شخصية (مولانا) الإنسان الذى طاله ما طال مجتمعاتنا من عوار الاحتياج فى عصور عجاف، وأصابه ما أصاب كل مواطن من شبهات الاستخدام فى أزمنة الاستبداد، ليتحول الفيلم إلى عزف على وتر المواجع الإنسانية التى تضخمت فى العقود الخالية، حتى لخص مولانا مهمته فى واقعنا قائلاً (أنا باشتغل فى الدعاية مش فى الدعوة)، وعلى قدر صدمة البيان السينمائي، فإن بيان الواقع يسحب توصيفه على كل مكونات المجتمع حتى يمكن أن نردد ذات العبارة سواء كُنَّا شيوخاً أو قساوسة أو أى مهنة وحرفة أخري. صدمنا مجدى أحمد على حين قرر أن يجسد ما نمارسه ونعايشه ونعتاده، لكنه فى نفس الوقت صدم كل صاحب سلطة فى هذا الوطن، حين حول الفيلم من مجرد إسقاط القداسة -التى لا أصل لها ديناً عن علمائه-، إلى إسقاط القداسة عن الاستبداد الذى يمتهن قداسة الإنسان باستخدام مكونات حياته عبادة وسعياً، وإسقاط القداسة عن وسائل الإعلام الخادمة للاستبداد بتسويق الدين كمخدر فاعل فى تغييب الجماهير، وإسقاط القداسة عن المجتمع الذى قبل الانسحاق فتاوي، ورضى بالتعصب فتناً تضمن بقاء المستبد، وارتضى السير وراء التطرف أملاً فى جنة لم يستطع تحقيقها على الأرض حين لم يواجه نفسه بخطاياه، ليهتف مع مولانا فى نهاية الفيلم (هيخلص كل الكلام وهنستفتى قلوبنا اللّى هتفتينا بس بكلام الله الحق وساعتها هنبطل نزعق علشان نسمع بعض ومش هنحتاج لده -ميكرفونات الفضائيات)، إنها دعوة لأن يصبح كل مواطن (مولانا) القادر فعلاً لا قولاً على ترديد عبارة (أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف