المساء
محمد جبريل
إبداعات من الجنوب
تعرفت إلي بيئة الصعيد للمرة الأولي في كتابات محمود البدوي ويحيي حقي بدت لي مغايرة عن بيئة الساحل التي نشأت فيها. وعن الدلتا التي تنتمي أصول عائلتي إلي إحدي قراها. وعن القاهرة باتساعها. وتعدد لهجاتها. وتناقض عاداتها وتقاليدها. اتساقا مع طبيعتها. فهي التعبير المؤكد عن خصائص البيئات المصرية جميعا.
تناول يحيي حقي بيئة الصعيد في بعض قصصه التي ضمنها مجموعة "دماء وطين". بينما هي البيئة التي عبرت عنها معظم أحداث قصص محمود البدوي. محمود البدوي هو أول من جعل الحياة في الصعيد محورا لإبداعاته في القصة القصيرة كتب عن عمال التراحيل. وحاملات الجرار. والثأر. والمعاقين جسديا ونفسيا. والظروف الاقتصادية السيئة.. إلخ.. استطاع كما يقول رجاء النقاش بحق أن يعتصر لنا في أدبه مأساة الصعيد.
وإذا كان تواصل الريادة الإبداعية في الصعيد قد تحقق في أعمال محمد خليل قاسم وبهاء طاهر وعبدالعال الحمامصي ومحمد مستجاب ومحمد الخضري عبدالحميد وبهاء السيد. وعشرات غيرهم.. فإن الأجيال التالية قد أضافت إلي حديقة الإبداع في تنوع ثمارها بما يشكل إضافة في الوقت نفسه إلي الإبداع المصري عموما.
والحق أنه لم يعد الصعيد في أدب الأجيال الحالية من كتاب القصة والرواية. ذلك الذي تلفه ظلمة العمي الوصف لأستاذنا يحيي حقي يتلفح به الكون مرغما. يهبط علي الفضاء حملا ثقيلا. يحيط بالأرض كالقيد. يغطي الحقول كالكفن. ويلف القري كالضماد. وينحدر ولاحد لاتساعه إلي الشقوق فيحتويها. ثم يتلفت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه. فيحتلها ويتمطي فيها.
سوسولوجيا الأدب هم يشغلني. وأصدرت عنه فيما أقدر أول دراسة تطبيقية وهو بالضرورة بعض رؤيتي للأعمال الإبداعية التي يتاح لي قراءتها.. وإذا كانت ملامح البيئة واضحة في الأقل من قصص أدباء الصعيد. فإن معظم هذه القصص ينطلق من المستوي الإنساني العام. النفس الإنسانية بأزماتها وتعقيداتها وقلقها وتشابك علاقاتها بالذات وبالآخرين.. وهذا في تقديري ليس عيبا. لأن العمل الفني لا يصدر بقرار. لا يوضع في إطار مسبق محلية العمل انطلاقا إلي الإنسانية تهبه قيمة مؤكدة. لكن الإملاء في تحقيق هذه القيمة يضعه خارج الفن إطلاقا.
أفضل أن تكتب القصة نفسها فعل الكتابة اكتشاف أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماما صورتها النهائية.. القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها قد يأتي المولود في صورة غير التي ربما كان يتوقعها الفنان. كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو. في أن كاتب السيناريو عنده قصة جاهزة. فهو يحول القصة إلي مشاهد. وفي كل الأحوال. فإن كتابة القصة ينبغي ألا تخضع للمنطق الصارم. للعقلانية التي قد تفقدها تلقائيتها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف