من أهم سمات المنطقة التى نعيش فى محيطها أنها حافلة بالعواصف الأمنية والسياسية، ربما شهدت مثلها وأكثر قبل عقود ماضية،
لكن حالة الركود التى عاشت فى ظلها لسنوات فرضت على أصحاب المصالح الكبرى ضرورة «رجرجتها» حتى يتسنى لهم فك وتركيب بعض مفاصلها الرئيسية.
وبصرف النظر عن النسبة التى أحرزتها عملية التفكيك، ففى كل الأحوال تم إحراز جزء معتبر يمكن البناء عليه، بصورة تجعل عالم ما بعد عام 2011 لن يكون شبيها بما قبله، من حيث التوجهات والتصورات والسياسات، والقوى الفاعلة الرئيسية والهامشية، وصولا إلى طبيعة شبكة المصالح المعقدة، التى سوف تكون حاكمة لكثير من التصرفات الإقليمية والدولية.
البعض يدقق فيما حصل فى سوريا، ولا يزال، ويحاول أن يكّون صورة عن ملامح الترتيبات المقبلة، لكن هناك من يملكون رؤية أعمق، وينظرون للمشهد من زواياه وأبعاده المختلفة، وكل ما ينطوى عليه من تغيرات وتطورات، وليس بالضرورة أن يكون حلفاء الأمس هم حلفاء اليوم، أو العكس، فما يدور فوق السطح وداخل الغرف المغلقة، يشى بأن المنطقة أمام زلزال، يمكن أن يصيب البعض بالدوار ويفقدهم توازنهم المعروف، فالحركة السياسية الدائرة الآن، مهما بلغت درجة سيولتها الراهنة، فهى تقترب من الثبات، لأن وقت ترتيب الأوراق حل أوانه.
الطريقة الهادئة التى تتعامل بها روسيا مع كثير من الدول، تؤكد أن قيادتها تملك رؤية واضحة، والأدوات التى تتعامل بها الإدارة الأمريكية الحالية، تقول إنها مصممة على أن تترك ميراثا ثقيلا للإدارة اللاحقة، وهو ما يجعل موسكو تسارع خطواتها لتوظيف هذه الحالة التى لم تشهد لها مثيلا الولايات المتحدة، فروسيا التى وضعت تركيا تقريبا على مقربة منها، تريد أن تحرم واشنطن من أهم أوراقها فى المنطقة، وهى أيضا التى كرست علاقاتها مع كل من إيران وإسرائيل وسوريا والعراق ومصر، لن تكون بعيدة عن تعزيز علاقاتها مع غالبية دول الخليج.
المؤشرات الدالة على ذلك عديدة، فالمحاور التى تسير عليها موسكو جعلتها تمتلك حزمة من المفاتيح، التى تمكنها من دخول أبواب كثيرة، عنوة أو باستئذان، وهو ما يخلف وراءه تداعيات متباينة، ورابحين وخاسرين، وحلفاء وخصوما، ودولا قوية أو أشباه دول، لأن معركة كسر العظام السياسية، سوف تكون أشد شراسة من المعارك العسكرية التى دارت رحاها فى سوريا أو غيرها، فالأخيرة كان بالإمكان التدثر بأردية البعض، أما الثانية (السياسية) لابد أن يكون لكل عظم لحمه الذى يحميه، فمن الممكن أن تحارب بالوكالة، لكن من الصعوبة أن تتفاوض كذلك.
الحكمة السياسية، وفرت لمصر فرصة جيدة وسط العواصف الأمنية، التى رأيناها هنا وهناك، وجعلت علاقاتها متوازنة مع كثير من الدول، وحتى من تطاولوا عليها وحاولوا التخريب والتدمير لم تتم مبادلتهم بالطريقة ذاتها، وهو ما يتيح المجال لتكون مصر رقما مهما فى الترتيبات المقبلة.
هناك علاقات دولية جيدة، مع الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وكما كانت مصر «الكعكة» التى يسعى البعض للفوز بها فى الضراء، أصبحت أيضا الدولة التى يتصارع على جذبها الكبار، ليس كعنصر إقليمى مساعد، لكن لحاجة إليها فى ضبط التوازنات المختلة، لأنها الأكثر استعدادا، بحكم الجغرافيا والتاريخ، والأكثر قابلية للفعل، بحكم الرغبة فى استرداد الدور، والأكثر جاهزية، بحكم الإمكانات.
الفرصة التى يعتبرها كثيرون مواتية أمام مصر، تتطلب مجموعة من المحددات، توافرها يؤكد أن هناك رغبة وإرادة وعزيمة على تحويل الغياب الإقليمى إلى حضور طاغ، يتجاوز حدود الحفاظ على المصالح المصرية، إلى توفير حماية حقيقية للأمن القومى العربي، وتقليص مساحة التردى فى محاوره المختلفة، والأهم وقف تمدد بعض القوى الإقليمية الطامعة فى زيادة الهيمنة على مقدرات المنطقة العربية، ويمكن التوقف عند أربع نقاط رئيسية.
الأولي، تحديد ماذا تريد مصر أن تكون، هل تسعى فعلا لتصبح رقما أساسيا؟ وفى هذه الحالة يجب اتخاذ مجموعة من الخطوات التى تقود إلى النتيجة المباشرة، وتحمل متاعبها وتكاليفها، لأن مصر يصعب أن تعيش حياة طبيعية وهى منكفئة على نفسها، فالدور الإقليمى أحد أهم مكونات الأمن القومي، وهو فرض عين وليس اختيارا، ما يستوجب وضع رؤية شاملة وواضحة للوصول إلى هذا الهدف، وربما كانت أسباب الخمول خلال السنوات الماضية مفهومة، لكن لن تكون مقبولة مستقبلا، فى ظل ارتفاع سقف الأمنيات، والظروف الإقليمية المواتية.
الثانية، كيف تصل مصر إلى ما تريد؟ الأمر الذى يتطلب تدشين حزمة من السياسات المتوازية، على أصعدة مختلفة، تأخذ فى اعتبارها التباديل والتوافيق التى تتم على الساحتين الإقليمية والدولية، والتى تجعل عددا كبيرا من الخيارات المتصادمة ممكنا، ومراعاة البيئة الحافلة بالمتناقضات وحركة الصعود والهبوط فيها، من العوامل التى تضمن لمصر مكانا مهما تحت شمس الشرق الأوسط.
الثالثة، أى دور تريد أن تلعبه؟ الإجابة المحددة عن هذا السؤال تصلح لتكون مدخلا لكثير من السياسات والتصرفات، بمعنى هل نريد أن نكون أحد عناصر الشرطة التى تحرس المنطقة لحساب قوى كبري، أم أحد أهم قادتها التى تحافظ على الأمن القومى العربي؟
من المؤكد أن الاختيار الأول عفا عليه الزمن، وحان وقت القيام بمهام وأعباء الشق الثاني، ففى ظل كثرة القوى واللاعبين فى المنطقة، لابد أن تكون هناك قوة عربية مهيأة لتحمل هذا العبء، وهو ما يمنح صاحبتها الريادة الحقيقية، خاصة أن الجهات الموازية، أو التى لديها استعداد لتحمل هذه المشقة، تملك من الأزمات ما يعوق قيامها بهذه المهمة.
الرابعة، ما هى الأدوات التى تضمن الحفاظ على علاقات إقليمية ودولية جيدة؟ فى ظل التضارب الحاصل فى المصالح، من الصعوبة أن تملك أى دولة علاقات قوية مع الجميع، الأمر الذى يتطلب من مصر مرونة أو مروحة سياسية، قادرة على الاستيعاب، عمادها المنافع المتبادلة، وهى الصيغة التى بدأت دول كثيرة تنتهجها، وتمكنها من تقليل الخصوم وزيادة الأصدقاء، ولعل المنهج الذى تسير عليه موسكو حاليا، حقق أغراضه، لكن مسألة إعادة تكراره تتطلب مراعاة خصوصيته.
بالتالي، بعد أن تهدأ العواصف وتتوقف المدافع، يجب أن تكون مصر مستعدة للقيام بدور فاعل ومؤثر، لتطوى صفحة غامضة استمرت نحو أربعة عقود ماضية.