المساء
مؤمن الهباء
شهادة .. انتداب القضاة
من أمتع التحقيقات الصحفية الجادة التي قرأتها هذا الأسبوع تحقيق الزميل فتحي الصراوي المنشور في ملحق "دموع الندم" بالجمهورية يوم السبت الماضي عن تأثير نظام انتداب القضاة للوزارات والمحافظات والمؤسسات المختلفة علي ميزان العدالة في وطننا.. حيث يعتبر البعض هذا الانتداب باباً خلفياً لتسلل الفساد إلي الجسد القضائي.
وإذا كان الحذر من انتداب القضاة يشمل القضاء بصفة عامة فإن قضاء مجلس الدولة تزداد فيه مساحة هذا الحذر باعتباره قضاء إدارياً يحكم في كافة الدعاوي الإدارية التي تكون الدولة بوزاراتها ومؤسساتها طرفاً فيها.. كما أنه يراجع العقود التي تبرمها الدولة مع رجال الأعمال.. وهو الجهة الوحيدة التي تفصل في سلامة هذه العقود.. ومن هنا انتبه الدستور الأخير إلي هذه المسألة المهمة وحدد خمس سنوات من ساعة الموافقة علي الدستور لمنع انتداب القضاة نهائياً إلا لإدارة شئون العدالة.. ولأن هذه الجملة الأخيرة "إلا لإدارة شئون العدالة" مطاطة.. فقد استمر الانتداب.. واستمر تعرض القضاء لهزات مؤلمة.
زميلنا فتحي الصراوي من أشد الحريصين علي نقاء ثوب القضاء من أن يمسه أدني دنس.. وقد أورد في تحقيقه الصحفي الحصيف آراء المؤيدين لمنع انتداب القضاة نهائياً.. وآراء الذين لا يرون في الانتداب أي خطر.. وآراء من يرون الموافقة علي الانتداب في ظل قيود وضمانات قانونية تجعل تأثيره علي ميزان العدالة معدوماً.
وبعيداً عن التفاصيل الكثيرة التي تضمنها التحقيق فإن الرأي الغالب هو المطالبة بمنع انتداب القضاة نهائياً سداً للذرائع.. وخصوصاً بالنسبة لقضاة مجلس الدولة الذين يفصلون في قضايا مهمة بين مؤسسات الدولة وخصومها.. وهذا يتطلب قدراً هائلاً من الموضوعية والحياد.. وهناك اعتراف واضح بأن القاضي المنتدب لجهة معينة لا يمكن أن يكون محايداً لو أنه سيفصل في قضايا علي المنصة.. لذلك فالقضاة يقولون دع ما يريبك إلي ما لا يريبك.. ليظل ثوب القضاء ناصع البياض.
وقد أعادني هذا التحقيق الصحفي الرصين إلي ما كنا نطالب به خلال الشهور القليلة التي تلت ثورة 25 يناير وانكشاف مساوئ انتداب القضاة والجزرة التي كان يستخدمها نظام مبارك لغواية بعض القضاة والتأثير عليهم بوعود التعيين في مناصب الدولة العليا.. محافظين ووزراء.. ولذلك كان أحد المطالب الكبري ـ بعيدة النظر ـ أن يتم توفير الحماية الكاملة للقضاء من هذه الغوايات السلطوية.. ومنع الانتداب نهائياً.. ووقف التقليد القديم بتعيينهم في المناصب الحكومية والتنفيذية كمكافأة لنهاية الخدمة.. مع منحهم الامتيازات اللازمة التي تكفيهم أن يعيشوا مثل الوزراء والمحافظين وأفضل.. لأنهم هم ضمير الأمة وبأيديهم ميزان العدالة.. والعدل ـ كما نعرف ـ هو أساس الملك.. فهم أصحاب القامات العالية التي تعلو المناصب والمكاسب.
كان لدينا طموح كبير في أن يتفرغ القضاة لإقامة ميزان العدل في دولتنا.. ومازال هذا الطموح قائماً.. حتي لا ينشغل القاضي بغير المنصة العالية التي يجلس عليها.. وليعلم الجميع أن القضاء في مصر لا يمد عينه بعيداً عن هذه المنصة المقدسة وأوراق القضية التي بين يديه.
ثم.. إذا كنا نعاني من طول مدة التقاضي ونبحث عن العدالة الناجزة.. فلابد أن نبدأ بمنع هذا الانتداب.. حتي لا يخرج القاضي بعيداً عن المنصة.. ولا ينشغل بلقمة العيش وتأمين المستقبل.. بل علينا أن نمنع الانتداب للخارج نهائياً.. وإن كان للدول الشقيقة التي تتشرف بالاستعانة بقضائنا وخبراتهم العالية.. فما تحتاجه منصات القضاء في مصر لا يذهب للخارج.. إلي أن نتوسع في أعداد ما يكفينا أولاً من القضاة لإنجاز العدالة.. فالشعب الذي يثق بأن حقه سيأتيه بالقانون والقضاء لن يجازف بالبحث عن حقه بيده.
ولا ننسي في النهاية أن العدالة البطيئة هي الظلم السريع.. فليتفرغ قضاؤنا للفصل بين الناس وتطبيق العدالة.. دون الحاجة إلي الانتداب في الداخل أو الخارج.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف