د/ شوقى علام
خلل الفهم في القرآن الكريم (3)
ما يحصل في هذا العصر من التفجير والتدمير والقتل واستحلال الحرمات، هو نتيجة للفتاوى المغلوطة التي ينطلق منها المنحرفون ضد الوطن والمجتمع؛ فهم يرتكزون على مفاهيم منحرفة وأفكار خارجة على قواطع الإسلام وواقع حضارته وما استقرت عليه الأمة.
إن هؤلاء يتعاملون مع القرآن الكريم بمنطق: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة»، لتهييج المسلمين, خاصة الشباب, على القتل والدمار والتخريب تحت شعارات لامعة ودعاوى مزخرفة تزعم نصرة الإسلام وتمكين المستضعفين وإزالة الظلم، تاركين -عمدًا وجهلا- خلف ظهورهم مقررات الإسلام المحكمة، التي تحرض المسلمين على إشاعة الرحمة وإقامة العدل وتشييد السلام والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث يزعمون أن آية السيف وحدها – وهي قوله تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»[التوبة:5]- نسخت مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة من سور القرآن الكريم.
ألا ساء ما زعموا؛ فإن آيات القرآن الكريم قد فصلَّت علاقة المسلم بالآخر بأفصح بيان، وهو محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ألم يقرأوا قول الحق:«لَا إِكْرَاهَ فِى الدين» [البقرة:256]،وقوله:”فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:20]،وقوله:”أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”[يونس:99]،وقوله:”ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”[النحل:125]،وقوله تعالى:”إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ”[القصص: 56] وغير ذلك من الآيات التي تأمر المسلم بالاستقامة والتحلي بالصبر والرحمة واحترام الآخر والمحافظة على العهود والمواثيق.
ولا ريب أن هذه الأحكام الشرعيَّة محكمة لا ناسخ لها، وهي تحمل في طياتها دلالاتٍ قطعية تؤكد أن الإسلام لم يقم يومًا على الحرب وإطلاق عنان السيف، بل قام ويقوم بحقيقته النقية وطبيعة دعوته الحنيفية التي فيها الرحمة والأمن والعدل، وهذا ظاهر للعيان من كون صاحب رسالة الإسلام صلى الله عليه وسلم قد اتحدت الرحمة به وانحصر فيها،كما أخبرنا الله تعالى بقوله:”وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”[الأنبياء:107].
ومن يزعم نسخ هذه الآيات وما قررته من أحكام فقد اتبع هواه وتملك منه شيطانه؛ لأن النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله، وشرطه التعارض وتعذر الجمع وكون الحكم الثاني (الناسخ) متأخرًا عن الحكم الأول (المنسوخ) وغير ذلك من الضوابط المقررة في هذا الشأن،فأين بيان ذلك عند هؤلاء؟ ومن يتأمل في هذه الآية سيجد أن خاتمتها تنسف مزاعمهم الكاسدة، حيث قال تعالى:”فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ومن ثَمَّ فإن الاستدلال بهذه الآية على أن الأصل حرب غير المسلم وقتاله واستهداف أمواله وهتك عرضه وأمنه باطل على عمومه، إنما الصواب أن هذه الآية متناغمة ومنسجمة مع القاعدة العامة المقررة في هذا السياق بأن “القتال لمن قاتلنا”.
إن الإسلام يحرض أتباعه أبدًا على أنه لا إكراه على معتقد أو رأي؛ إقرارًا على حرية الإرادة، وقبولًا بسمات التمايز والفروق واحترامًا للحياة الخاصة والتطلعات المشروعة، وفي ذلك يقول تعالى:”لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”[الكافرون: 6]، وقد ضمَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في بنود وثيقة المدينة، كما كتب كتابه إلى أهل اليمن يأمرهم بـ “أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها”، ولا يخفى أن كل ذلك أوامر شرعية تقتضي احترام الخصوصيات الثقافية والحضارية والمحافظة على العهد ما دام الآخر محافظًا عليه وقائمًا به. فكيف إذًا يُقال: إن آية السيف نسخت هذه الأدلة المحكمة المنظمة لشئون الحياة والعلاقات بين المسلمين وبين الخلق جميعًا.