إذا أردت أن تحكم على حضارة أمة فعليك أن تنظر وأن تتأمل جليًّا فى نتاج كتابها ومفكريها وأدبائها، وهو لا يكاد يخرج عن أحوال التقشف والجمود الفكري،
أو الترف الفكري، أو الواقعية، أما التقشف والجمود فهو سمة الأمم والدول المتخلفة شديدة التخلف، إذ إن الأمم لا تنهض ولا تتقدم إلا بالعلم والفكر والثقافة، وتسقط بالعقم والجهل والخرافة، وقد يصل مستوى العلم والثقافة والتقدم إلى درجات من الرقى تجمع بين الواقعية والثراء الذى يصل إلى حد الترف أو الرفاه الفكرى على نحو ما سطره ابن برد الأندلسى فى رسالته السيف والقلم والتى جاء فيها ضمن ما جاء فى مناظرة شيقة: قال القلم :خير الأقوال الحق، وأحمد السجايا الصدق ، والأفضل من فضله الله عزّ وجلّ فى تنزيله، مقسِمًا به لرسوله، فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، فجل من مقسِم، وعز من قسم، لقد أخذت الفضل برمته، وقدت الفخر بأزمته... فقال السيف: يالله! استنت الفصال حتى القرعي، ورب صلف تحت الراعدة؛ لقد تحاول امتدادًا بباع قصيرة، وانتفاضًا بجناح كسيرة، أمستعرب والفلس ثمنك؟ ومستجلب وكل بقعة وطنك؟ إن الملوك لتبادر إلى دركي، ولتتحاسد فى ملكي، ولتتوارثنى على النسب، ولتغالى فيّ على الحسب؛ فتكللنى المرجان، وتنعلنى العقيان، حتى أبرز بروز الهندى يوم الجلاء. فقال القلم: إن ازدراءك بتمكن وجداني، وبخس أثماني، لنقص فى طباعك، وقصر فى باعك؛ ألا وإن الذهب معدنه فى العفر، وهو أنفس الجواهر، والنار مكمنها فى الحجر، وهى إحدى العناصر، وإن الماء وهو الحياة، أكثر المعايش وجدانًا، وأقلها أثمانًا.
وهكذا تستمر هذه المحاورة الشيقة فى ترفها الفكرى بين السيف والقلم لتؤكد أن العاقل من يستخدم كل شيء بقدره ويضعه فى موضعه فلا يضع السيف موضع القلم ولا القلم حيث يقتضى المقام السيف.
على أن ثقافة الأمم الآخذة بزمام النمو إنما تتجه إلى الواقعية ومعالجة القضايا والمشكلات الآنية والعصرية والملحة والضاغطة، دون أن يهرب كتابها ومفكروها ومثقفوها إلى الجدليات والافتراضات، فالجدليات والافتراضيات وفنون الإلغاز إما أن تنشأ نتيجة الرفاه الزائد أو التخلف الزائد أو المنهج الهروبى فى أزمنة الكبت والقهر، أو هروب العلماء من مواجهة الواقع إلى عزلة تجعلهم أقرب إلى الفرضيات منهم إلى المنهج الواقعى واقتحام غمار المشكلات ومواجهة التحديات، وقد وصل إلينا عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الرؤى والمسائل الافتراضية، خروجًا من الواقع إلى المحتمل.
وإذا كان أهل المنطق يفرقون بين الجائز عقلاً والواقع فعلاً ، فإن هذا الأمر يبدو مستقيمًا فيظل الجائز جائزًا والواقع واقعًا لدى الأمم الراقية التى تبنى على العقل والعلم والعدل، ويختل ميزان الجائز والواقع بمقدار اختلال قيم الأمم واستقامتها، فلو سألت إنسانًا هل يجوز نجاح المهمل ورسوب المجد، وهل يفلت الجانى ويعاقب البرىء، لجاءت الإجابة مختلفة، ففى الأمم والدول الراقية التى تتحرى الحق والعدل حتى يصبح ذلك ثقافة، تكون الإجابة استنكارًا: أو يمكن أن يحدث ذلك؟ أو كيف يحدث ذلك؟ مع أن وقوعه جائز، أما لو سألت أحدًا من الدول المتخلفة أو تلك التى يضرب فيها الفساد بجذور راسخة، لربما أجابك أن الأصل هو أن يفلت الجانى ويعاقب البرىء، أو قال لك هذا هو الواقع، أو على أقل تقدير: نعم يحدث.
وإذا كانت نهضة أى مجتمع ترتبط ارتباطًا كبيرًا بمدى التقدم العلمى والفكرى والحضارى والقيمى والأخلاقى فإن المراحل الصعبة فى حياة الأمم تحتاج إلى النزول إلى أرض الواقع واقتحام المشكلات الصعبة وترتيب الأولويات، وتأجيل النظر فى الجدليات والفرضيات إلى أيام السعة والرفاه، وألا نشغل الساحة الفكرية بأمورٍ أو قضايا هى أقرب إلى الرفاه والترف الفكرى والعلمى منها إلى الواقعية والحاجة الملحة لنهضة الأمم أو إقالتها من عثراتها.