الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
الصــــــــــديقان
هناك في اللغة العربية ما يعرف بفن التغليب. كإطلاق لفظ القمرين علي الشمس والقمر. والمدينتين علي مكة المكرمة والمدينة المنورة. والأبوين علي الأب والأم والعمرين علي أبي بكر وعمر "رضي الله عنهما". والأسودين علي التمر والماء. بتغليب صفة التمر علي صفة الماء. والصديقين علي أبي بكر وعمر "رضي الله عنهما". وكأن هذين الصحابيين قد تبادلا تغليب الاسم وتغليب الصفة.
أما أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" فقد بلغ ما بلغ من المكانة والمنزلة بقدر ما أعطي وقدر ما ضحي. ولقب بالصديق لصدقه مع رسول الله "صلي الله عليه وسلم" في صحبته وشدة تصديقه له وإيمانه برسالته. فعندما قال له المشركون إن صاحبك يعنون سيدنا محمداً "صلي الله عليه وسلم" يزعم أنه أسري به إلي بيت المقدس ثم عاد في ليلة واحدة ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً إيابا. فقال "رضي الله عنه" إن كان قال قد صدق. إني لأصدقه في أبعد من هذا في الخبر يأتيه من السماء.
وعندما دعا النبي "صلي الله عليه وسلم" إلي الصدقة في أيام العسرة جاء أبو بكر "رضي الله عنه" بكل ماله. فقال له النبي "صلي الله عليه وسلم" ماذا تركت لأولادك يا أبا بكر فقال "رضي الله عنه": تركت لهم الله ورسوله. حتي قال عنه رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" "رواه البخاري". وفي حديث آخر "إن الله بعثني إليكم. فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين. فما أوذي بعدها" "رواه البخاري". وفي حديث آخر "لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً" "رواه البخاري".
والصديقان صديقان وصاحبان فقد كان عمر "رضي الله عنه" هذا الرجل القوي أطوع الناس لخليفة رسول الله أبي بكر الصديق "رضي الله عنه". وخير صاحب وخير داعم له. ولما أراد أبو بكر الصديق "رضي الله عنه" الخروج بنفسه علي رأس أحد الجيوش. المتجهة لقتال المرتدين قال له عمر يا أبا بكر نقول لك ما قاله لك رسول الله "صلي الله عليه وسلم"! يا أبا بكر لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك.
ثم جاءت أيام عمر فإذا الشدة تمتزج بالرحمة فلا تدري أهو الرجل القوي الشديد أم هو الرجل شديد الرأفة والرحمة برعيته؟. مر يوماً مع أصحابه علي واد بمكة فوقف عنده قائلاً: لقد رأيتني هنا وأنا عمير أرعي إبل الخطاب وكان غليظاً يتعبني. فقال له ابنه عبد الله: ما حملك علي هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن أباك قد خشي أن ترفعه نفسه فأراد أن يضعها. وقد رؤي باكياً خلف جدار وهو يقول: بخ بخ لقد صرت أمير المؤمنين يا عمر. مستعظماً ذلك علي نفسه. وكان "رضي الله عنه" يقول والله لئن نجوت كفانا لا علي ولا لي إني لسعيد.
وجاء عام الرمادة أو المجاعة فجمد فيه عمر حد السرقة في شجاعة نادرة ورؤية فقهية ثاقبة وكتب يوماً إلي أحد عماله.
ماذا تصنع إذا جاءك سارق؟ قال: أقطع يده. فقال عمر: فإن جاءني جائع قطعت يدك.
وقد استطاع حافظ في عمريته الرائعة أن يلقي بعض الظلال علي جوانب هامة من حياة عمر "رضي الله عنه" فقال:
وهال صاحب كسري أن رأي رجلاً
بين الرعية عطلا وهو راعيها
فقــــال قولة حــق أصــــبحت مثــــلاً
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمــــت العــــدل بينهم
فنمــت نوم قرير العين هاديها
إن جاع في شدة قوم شركتهم
في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
فمن يبــاري أبا حفص وسيرته
أو من يحــاول للفاروق تشبيها
فمن أراد أن ينظر إلي الوجه المشرق لتاريخنا المجيد وعظمة حضارتنا الإسلامية فلينظر إلي تاريخ هؤلاء العظماء ليدرك أنهم ملأوا الدنيا عدلاً وفقهاً وسماحة وأخلاقاً وقيماً. وحق لهم أن يقول فيهم رسول الله "صلي الله عليه وسلم" "خير الناس قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه. ويمينه شهادته" "رواه البخاري".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف