جمال سلطان
جامعة الأزهر تحيي ميراث التعصب والغلو
كان الخبر صادما عندما قرأته أول مرة ، وقد تشككت في صحته ، إلا أن أحدا من جامعة الأزهر لم يتطوع لنفي المعلومة أو الخبر ، والواقعة العلمية التي نقلتها إحدى الصحف المعروفة أول أمس تقول : كشف الدكتور جمال فاروق، عميد كلية الدعوة الإسلامية، بجامعة الأزهر، إن الكلية، لأول مرة ترد "ترفض" رسالة ماجستير لباحث يدعى محمد يوسف، سلفى، بسبب خروجه عن المنهج الأزهرى، وذلك أمس الثلاثاء، بعد مناقشة استغرقت سبع ساعات. وأضاف عميد كلية الدعوة، فى تصريحات للصحيفة نفسها ، إن عنوان الرسالة كان "قضايا العقيدة عند ابن منده"، مشيرًا إلى أن ابن منده هو من متأخرى الحنابلة وهو يذهب إلى التجسيم والتشبيه، ما يعتبر خروجًا عن المنهج الأزهرى، الذى هو منهج أهل السنة والجماعة ، وتابع عميد كلية الدعوة : أن اللجنة قررت بالإجماع رد الرسالة وهى المرة الأولى، حيث استمرت المناقشة من العاشرة صباحًا وحتى العشاء مستغرقة سبع ساعات، موضحًا أن الرسالة تخالف توجهات أهل السنة والجماعة، وهو المنهج الذى يسير عليه الأزهر الشريف. هل يعقل أن يصبح ضيق الأفق العلمي متحكما في الأزهر وجامعته إلى هذا الحد ، هل معقول أن يحيي بعض رجال الأزهر تراث الفرقة وتمزيق أمة الإسلام ، وهل سننتظر قريبا أربعة محاريب أو خمسة أخرى لكل منها صلاة كما كان يحدث في زمان الفتنة والفوضى ، وهل يمكن أن يؤسس الأزهر لمنهج التكفير العقدي للمذاهب الإسلامية المختلفة ، وهل يحق لأحد من أساتذته أن يرفض رسالة علمية لمجرد أنها تختلف مع مذهبه الفكري أو العلمي ، حتى لو كانت تتسق مع أحد أكبر المذاهب الإسلامية في العالم وأحد أركان أهل السنة والجماعة بمذاهبهم الأربعة المعروفة ، هذا هو المحير والذي أعتقد أنه يحتاج لتحقيق على أعلى مستوى من مشيخة الأزهر . والإمام ابن منده أحد أبرز الحفاظ في تاريخ الإسلام وأعلامه ، ووصف بأنه إمام الأئمة ، وصنف له الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء فأثنى على علمه ورحلته في طلب العلم كما عرض تنزيهه عن تهمة التجسيم والتشبيه التي رماها به خصومه ، والذي يريد البعض في الأزهر اليوم إحياءها من جديد ، وكأن الأمة ينقصها المزيد من التمزق والخلاف والشتات الديني والمذهبي ، كما أن هناك رسائل للدكتوراة والماجستير عديدة قدمت واعتمدت نتائجها في جامعات إسلامية كبرى عن "ابن منده" وتمت إجازتها ، مثل الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ، وقد أشرف على تلك الرسائل علماء بالأزهر نفسه وأجازوها ، كما ناقش بعضها رموز من أعلام الفكر الإسلامي الحديث والذين كانوا أبعد ما يكون عن منهج الحنابلة ، ومنهم الراحل الكبير الشيخ محمد الغزالي ، فنحن ـ إذن ـ لسنا بصدد مواجهة فكر شاذ أو متطرف أو مستهتر ، وإنما نحن أمام تراث علمي خصب تلقته الأمة بالقبول ، ولا يضره أن يكون قد وقع فيه خلاف بين العلماء ، وهو خلاف معتمد ومقبول وهو من معالم خصوبة التراث الإسلامي . لا أعرف وجها للتباهي بأن لجنة من الأزهر اعتصرت الباحث سبع ساعات متصلة ، من العاشرة صباحا وحتى صلاة العشاء ، لمحاكمة فكره ودحض فكر الإمام ابن منده ، وليس معالجة انضباط الرسالة علميا ومنهجيا ، وهو دور اللجنة وحدودها ، بغض النظر عن اتفاق النقاش أو اختلافه مع نتائجها أو مع مذهب الشخصية موضوع الرسالة ، ولا يصح معاقبة الباحث لأنه انحاز إلى عالم دون غيره أو إمام دون غيره ، كما لا يليق أن يتحدث عنه عميد الكلية بعبارة " باحث سلفي يدعى ...." ، هذا غير لائق أبدا علميا بقدر ما هو مهين للأزهر وهيبته العلمية . هذا الذي حدث مع رسالة عن "ابن منده" يأتي في أعقاب مؤتمر "جروزني" المشبوه في الشيشان ، والذي دعا إليه وموله منظمات صوفية خليجية مشبوهة ترعاها دولة خليجية مثيرة للفتن السياسية والدينية مؤخرا ، وهو المؤتمر الذي شن هجوما على مذهب الحنابلة وابن عبد الوهاب وهاجم السلفيين وقرر إخراجهم من زمرة الدين أو من أهل السنة والجماعة ، وهو المؤتمر الذي أثار ضجة كبيرة وتراجع عنه من تزعموا مكره وتولوا كبره بعد انكشاف أمره ، كما تبرأ منه فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر ، والذي حرص على تأكيد ابتعاد الأزهر عن هذه الخلافات التي تمزق الأمة ، وأكد على احترامه لمذاهب الإسلام المعتمدة عند أهل السنة والجماعة بما فيها طبعا تراث مذهب الحنابلة وعلمائه ، ولكن الذي حدث في كلية الدعوة يعني أن ثمة اختراقا غير مفهوم في الأزهر ، واتخاذ البعض مواقف مسيئة له ، وتضعه في موضع الاستبداد العلمي وضيق الأفق والإساءة إلى تراث الإسلام نفسه وتفخيخ الحياة الإسلامية الجديدة بإحياء صراعات قديمة بغيضة على هذا النحو الذي حدث في واقعة رفض رسالة علمية عن إمام من أئمة أهل السنة . هذه الواقعة ليست هينة ، والعقلية المتعصبة التي أنتجتها ستنتج غيرها ، وأعتقد أنها تستحق أن تجري هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف تحقيقا عاجلا فيها ، لقطع الطريق على أي اختراقات مشبوهة للأزهر ، تضر بسمعته ، أو تخرجه عن ميراث السعة والتنوع الذي ميزه عبر القرون .